Monday, November 27, 2023

أول آكلي المحار

 في قصيدة لويليام كوبر (1731 - 1800) اسمها "الشاعر، المحار والنبتة الحساسة"، يستخدم الشاعر المحار ليتفلسف حول الحساسية والألم في عالمي الحيوان والنبات. تفتتح القصيدة بالمحار يرثي قدره:

 

آه أيها البائس تعيس الحظ! محكوم بالسكن

إلى الأبد في محارتي الطبيعية،

محكوم بالحركة حين يشاء الآخرون فقط،

ليس لراحتي الخاصة أو رضاي،

بل متقاذَفًا وملطومًا.

آنًا في الماء، وآنًا خارجه

لكان من الأفضل أن أولَد حجرًا

بمظهر أكثر خشونة وعديم الحس،

من رقة كرقتي

وحساسية مرهفة كهذه!

 
- ريبيكا ستوت، من كتاب: «المحار: التاريخ الطبيعي والثقافي»
- ترجمة: نوح إبراهيم

 

‘The First Oyster eater’, from Chatterbox: Stories of Natural History, 1889.
 

In a poem by William Cowper (1731–1800), ‘The Poet, The Oyster and the Sensitive Plant’, the poet uses the oyster to philosophize on sensitivity and suffering in the animal and
vegetable worlds. The poem opens with the oyster bemoaning its fate:

Ah hapless wretch! Condemned to dwell
For ever in my native shell,
Ordain’d to move when others please,
Not for my own content or ease,
But toss’d and buffeted about,
Now in the water, and now out.
‘Twere better to be born a stone
Of ruder shape and feeling none,
Than with a tenderness like mine,
And sensibilities so fine!

 

-  Rebecca Stott, «Oyster - Animal Series»

Thursday, November 23, 2023

مفتاح نصر الدين

 ما يمكن أن نسميه "النظرية العسكرية للمرض" ترى المرض كقوة معادية، شيء غريب يجب على الكائن الحي محاربته وهزيمته. تترك وجهة النظر هذه سؤالًا مهمًّا دون إجابة، إذ حتى في علاج العدوى الحادة حيث يمكننا تمييز الكائنات الدقيقة التي تغزو الجسم وقتلها بالمضادات الحيوية: لماذا تُبقِي البكتيريا نفسُها والفيروس نفسه على أحد بينما تُسقِط آخر؟ تعيش كائنات حية مثل المكورات العقدية -المسؤولة عما يسمى بمرض تآكل اللحم- في العديد من الأشخاص لكنها لا تسبب المرض إلا في قلة منهم. أو قد تحيا في أحدهم في وقتٍ ما من دون أن تسبب أي مشكلات ولكنها تشن هجومًا مميتًا في وقت آخر من حياة الشخص نفسه. ما سبب هذا التباين؟

شهد القرن التاسع عشر نقاشًا ساخنًا حول هذا الموضوع، استمر لعقود من الزمن بين رجُلين بارزين في تاريخ الطب، عالِم الأحياء الدقيقة الرائد لويس باستير، وعالم الفسيولوجيا كلود برنارد. أصر باستير على أن ضراوة الميكروب هي التي تحدد مسار المرض، وأصر برنارد على أن ضعف جسم المضيف هو المسؤول الأكبر. على فراش الموت تراجع باستير عن رأيه قائلًا: «كان برنارد على حق. الأمر لا يتعلق بالميكروب، الأرض (أي الجسم المضيف) هي كل شيء».

قد يكون باستير المحتضر تطرَّف في رأيه أكثر مما ينبغي، ولكن ربما كانت تلك لحظة تجلٍّ. منذ تلك الأيام، ولا سيما مع حلول عصر المضادات الحيوية في منتصف القرن العشرين، نسينا جميعًا أن "أرض المرض" هي إنسان معين في وقت معين من تاريخ حياته. في عام 1977 سأل جورج إنجل، الباحث في وحدة العقل والجسد في الطب: «لماذا أُصيب هذا المريض بهذا المرض الآن؟». لقد اعتمد الطب الحديث بشكل أساسي منظور «السبب والنتيجة» التبسيطي.

عندما لا نجد عاملًا خارجيًّا واضحًا -كما هو الحال مع الأمراض الأشد خطورة- فإنه يرفع يديه في الهواء معلنًا أن السبب مجهول. ربما تكون عبارة "مجهول السبب" هي العبارة الأكثر شيوعًا في كتب الطب الباطني. في حين أن التواضع العلمي أمر مُستحسَن، فإن نموذج السبب والنتيجة للمرض هو في حد ذاته مصدر للتصورات الخاطئة. لا يشرح هذا النموذج الطرق التي تتحول بها الصحة إلى مرض أو كيف قد يتحول المرض إلى صحة.

 

يروي التراث الصوفي القصة الشهيرة للملا نصر الدين، الأحمق الحكيم من القرن الثاني عشر، عندما كان يبحث على يديه وركبتيه تحت ضوء الشارع.

سأله جيرانه: «ما الذي تبحث عنه؟»

أجاب: «مفتاحي.»

انضم إليه جميع جيرانه في البحث، وتفحصوا بحرص ومنهجية كل بوصة من الأرض بالقرب من المصباح. لم يجد أيهم المفتاح.

فسأله أحدهم أخيرًا: «مهلًا يا نصر الدين، أين فقدتَ هذا المفتاح؟»

قال: «في منزلي.»

- «لماذا إذن تبحث هنا؟»

- «لأنني أستطيع الرؤية بصورة أفضل هنا بالطبع، تحت الضوء.»

قد يكون من الأسهل (والأجدى من الناحية التمويلية) البحث في أسباب منعزلة مثل الميكروبات والجينات، لكن ما دمنا نتجاهل المنظور الأوسع، ستظل الأمراض دائمًا مجهولة السبب. إن البحث في الخارج حيث ينير الضوء لن يمنحنا مفتاح الصحة، علينا النظر إلى الداخل، حيث يعم الظلام والعتمة.

 

ما من مرض له مسبِّب واحد. حتى عندما يمكن تحديد عوامل خطر كبيرة –مثل الوراثة البيولوجية في بعض أمراض المناعة الذاتية أو التدخين في سرطان الرئة– فإن مَواطن الضعف تلك لا توجد منفردة. ولا تسبب الشخصية في حد ذاتها المرض أيضًا: لا يُصاب المرء بالسرطان لمجرد أنه قمع غضبه، أو يُصاب بالتصلب الجانبي الضموري لمجرد كونه لطيفًا أكثر من اللازم. يعترف نموذج الأنظمة بأن العديد من العمليات والعوامل تعمل جنبًا إلى جنب في تشكيل المرض أو في جلب الصحة.

- د. جابور ماتيه، من كتاب: عندما يقول الجسد لا (18- قوة التفكير السلبي)
ترجمة: إيمان سعودي

© Mert Turak, Mevlânâ Celâleddîn-i Rûmî (2023)

 

What we might call the military theory of disease sees illness as a hostile force, something foreign that the organism must battle and defeat. Such a view leaves an important question unanswered, even in the treatment of acute infections where we are able to identify the micro-organisms invading the body and to kill them with antibiotics: why will the same bacterium or virus spare one person but fell another? An organism such as streptococcus, responsible for the so-called flesh-eating disease, lives in many people but triggers illness in only a few. Or it may be present in an individual at one time without leading to problems but mount a lethal attack at another time in the person’s life. What accounts for the difference?

 

The nineteenth century saw a heated debate on this subject, conducted for decades between two outstanding figures in the history of medicine, the pioneer microbiologist Louis Pasteur and the physiologist Claude Barnard. Pasteur insisted that the virulence of the microbe decided the course of illness, Barnard that the vulnerability of the host body was most responsible. On his deathbed Pasteur recanted. “Barnard avait raison,” he said. “Legerm n’est rien, c’est la terrain qui est tout.” [Barnard was right. The microbe is nothing, the ground (i.e., the host body) is everything.]

 

The dying Pasteur may have swung too far in the opposite direction, but perhaps he had an eye toward the future. Since his days, and especially with the coming of the antibiotic era in the mid-twentieth century, we have all but forgotten that the terrain for illness is a particular human being at a particular time of his life history. “Why does this patient have this disease now?” George Engel, a researcher of mind-body unity in medicine asked in 1977. To all intents and purposes, modern medical practice has adopted a simplistic “cause-and-effect” perspective.

 

When no obvious external agent is found—as is the case with most serious illnesses—it throws up its hands and declares the cause unknown. “Of unknown etiology” may be the most common phrase in textbooks of internal medicine. While scientific humility is welcome, a cause-and-effect model of disease is itself a source of misperception. It cannot portray the ways that health is transmuted into illness or how illness may be turned toward health.

 

Sufi tradition tells the famous story of the twelfth-century fool and sage, the mullah Nasruddin, on his hands and knees searching under a street light.

 

- “What are you looking for?” his neighbours ask.

 

- “My key,” he replies.

 

The neighbours all join in the search, carefully and systematically perusing every inch of ground in the vicinity of the lamp. No one finds the key.

 

- “Wait, Nasruddin,” someone finally says, “just where did you lose this key?”

 

- “In my house.”

 

- “Then why are you looking out here?”

 

- “Because, of course, I can see better here, under the light.”

 

It may be easier (and financially more rewarding) to research isolated causes such as microbes and genes, but as long as we ignore a broader perspective, diseases will always be of unknown etiology. A search outside where the light shines will not yield us the key to health; we have to look inside, where it is dark and murky.

 

No disease has a single cause. Even where significant risks can be identified—such as biological heredity in some autoimmune diseases or smoking in lung cancer—these vulnerabilities do not exist in isolation. Personality also does not by itself cause disease: one does not get cancer simply from repressing anger or ALS just from being too nice. A systems model recognizes that many processes and factors work together in the formation of disease or in the creation of health.

 

- Gabor Maté, When the Body Says No (18- The Power of Negative Thinking) 

 

Wednesday, November 22, 2023

اقتباسات من كتاب : «السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة» - د. خالد فهمي


  •  ...بتقديم سرد مفصل لكيفية ومسار تطور مجالي الطب والقانون في القرن التاسع عشر، يدرس السعي للعدالة العناصر المحددة التي تضمنها بناء الدولة الحديثة، وكيف فهم المصريون تلك العناصر وكيف تعاملوا معها جسديًا.

ويرى هذا الكتاب أن الدولة المصرية الحديثة أُنشثت من خلال وضع أساليب وتقنيات مكنتها من الرقابة على أجساد رعاياها والتحكم فيها. وتضمنت تلك الأساليب حملات التطعيم ضد الجدري، وتسجيل المواليد، والكشف على الأموات، والحجر الصحي، والتعذيب، والتشريح. وهكذا وجد المصريون أجسادهم وقد أصبحت حرفيًا موضوعًا لرقابة ومتابعة وتحكم لم يسبق لها مثيل، من المهد إلى اللحد، وربما إلى ما بعده أيضا. ويرسم هذا الكتاب صورة لطريقة إدخال هذه الممارسات المبتكرة وكيفية صقلها وتكييفها عبر العصور. وينظر أيضًا في الطريقة التي فهم بها الأهالي هذا التحكم غير المسبوق في أجسادهم، وكيف تعاملوا مع هذا التحكم أو قاوموه.

 ******

  •   ومنذ وقت مبكر يرجع إلى عام 1848 كان يتم تدبيج شكاوى منتظمة بشأن الرائحة النتنة التي تفوح في غرف المرضى، وهي الرائحة التي اشتهرت بين المرضى باسم «عفونة الإسبتاليات» أو «رائحة المرستان». وبعد تسع سنوات كان تدبيج التقارير عن القذارة والرائحة النتنة في المستشفى والملاءات القذرة التي لا يتم تغييرها بعد كل مريض ما زال مستمرا.

     

  • وفي حادث آخر رفعت ادعاءات بالخطا المهني ضد محمد الشباسي، وهو طبيب عالي الرتبة وعضو هيئة التدريس في مدرسة الطب، وواحد من أوائل الأطباء الذين أُرسلوا إلى فرنسا عام ‎1832،‏ وعُيِّن عند عودته بعد ست سنوات أستاذا لعلم التشريح والجراحة، وهما منصبان مرموقان للغاية في المدرسة الطبية. أما في المستشفي، فكان مسئولا عن عنبر الإفرنكي الذي كان بدوره من أهم أقسام المستشفى نظرا إلى أعداد المرضى الكبيرة به. ولكن ييدو من سجلات شورى الأطبا وديوان خديوي أن سيرة الشباسي العملية في هذه الوظيفة لم تكن ناصعة البياض؛ إذ أشيع أنه كان يمارس تشريح الأحياء في عنبره.

 

  • "...فالحالة هذه صدر الأمر إلى ناظر إسبتالية المُلكية بأن من الآن وصاعد لا يقبل أحدا من المرضى ما لم يكن معه تذكرة إما من ضابط المحروسة [أي رئيس ضبطية مصر الذي كان بمثابة مدير مديرية أمن القاهرة] وإما من شيخ الثمن."

    ويتساءل كلوت بك، رئيس شورى الأطبا، في هذه الرسالة إلى رؤسائه في ديوان الجهادية عن الصعوبات التي قد يواجهها المرضى لتنفيذ هذا الأمر: ماذا يفعلون عندما يحتاجون لدخول المستشفى على وجه السرعة، ولكنهم لا يعثرون على ضابط المحروسة أو شيخ الثُمن لكي يأخذوا منه التذكرة اللازمة؟

    وعندما تلقى جوابا يفيد بالمزيد من الإجراءات البيروقراطية، كتب كلوت بك خطابا شديد اللهجة يشتكي فيه من هذه التعقيدات: "بهذه‏ الكيفية المريض يمكنه أن يهلك بسبب مرضه وفي هذه الحالة تذكرة دخول الإسبتالية يكون استعواضهم بتذكرة دخول المقبرة".
     

  • وحقيقة الأمر أن محمد علي في السنوات الخمس عشرة الأولى من حكمه الطويل لم يبدِ أي اهتمام حقيقي بحالة شعب مصر أو بزيادة إنتاجيته أو بتحسين ظروف معيشته. بل إنه تصرف خلال تلك السنوات الأولى من حكمه كما يرد تحديدًا في تعريف "فوكو" لدور الحاكم، وهو أن يجعل مصير مملكته مرتبطًا به.

    عندما تولى محمد علي حكم مصر كان أول قراراته هو استدعاء أبنائه وغيرهم من أقاربه من "قولة" والأماكن المجاورة لها إلى مصر. وعيَّن أبناءه وابناء إخوته وأبناء عمومته وغيرهم من الأقارب حكامًا لمقاطعات هامة في مصر. وبعد ذلك بدأ في حملة لا تعرف رحمة ولا هوادة لاستئصال أي معارضة لسلطته، ولوأد أي مراكز قوى في مصر. ومن أشهر تلك الأعمال وأكثرها قسوة مذبحة المماليك في مارس 1811‏ عندما دعا محمد علي كبار المماليك إلى القلعة وأمر جنوده بإطلاق النار عليهم. في ذلك اليوم لقيَّ أكثر من أربعمائة مملوك مصرعهم وانتهى وجود المماليك في مصر إلى الأبد.

    وإذ أصبحت مصر ملكًا خالصًا له، أمر الباشا رجاله باستلاب كل مليم من أيدي أهل مصر.

     

    •  وفي ذروة تفشي الوباء، سمع الباشا عن نية مشايخ القاهرة جمع سكان المدينة في صلوات القنوت للتضرع إلى الله بأن يشملهم برحمته، وعندها وجه توبيخًا للمشايخ قائلًا إن مثل تلك التجمعات الكبيرة في أماكن مزدحمة لن تؤدي إلا إلى زيادة تفشي الوباء، وإن على الراغبين في التضرع إلى الله راجين رحمته أن يقوموا بذلك منفردين داخل بيوتهم.

     

  •   بالتالي في ضوء الطريقة المحددة التي نُفذت بها إجراءات الحجر الصحي، أن الاهتمام بلقمة العيش كان هو العنصر الأساسي في خلق وتشكيل موقف الأهالي من الحجر الصحي. ولم تكن الحساسية الدينية إزاء التعامل مع جثث الموتى ولا الرؤية القدرية العنصريْن الأساسيين في تشكيل ذلك الموقف.


     ******

  • كانت سمعة أي فرد تتأسس على الذاكرة الحية لمجتمع محلي ما وحكاياته الشفوية، وعادةً كان لتلك السمعة أثر حاسم في الحكم الذي يصدره القاضي الشرعي. كلمةfame ذيوع الصيت باللغة الإنجليزية ذات مفهوم شفهي أساسا، وجذرها اللاتيني fama يعني الحديث أو الكلام.

    وفي اللغة العربية نجد نفس الصلة بين الكلام الشفهي والسمعة: فكلمتا «السمعة» , «السمع»‏ تنبعان من نفس المصدر. وكما أوضح پيترز فقد كانت تلك الأحاديث والأقوال الشفهية ذات أثر عميق على سمعة أي شخص؛ وبالتالي كان لها آثرها الضمني على الحكم ببراءته أو إدانته: "كان للمجتمعات المحلية سلطة بعيدة الأثر على أفرادها من خلال تلك الأحاديث والأقوال الشفهية. فشهادتها أو توصيفها لشخصية فرد أو سمعته، مثل وصفه بأنه اعتاد الخروج على القانون، كانت العنصر الأساسي في إصدار حكم بالإعدام أو حكم بمجرد نفيه خارج حيه أو قريته".

    ومن الثابت أن بعض الناس كانوا يتواصلون أو يتحدثون مع القاضي في بعض الأحيان ليسردوا عليه حكايتهم الشخصية للأحداث، وكانوا في قيامهم بهذا يمحون من سجل المحكمة المكتوب أي إشارة إلى جريمة سابقة، أو أي شك يجمع عليه أفراد مجتمعهم المحلي من شأنه أن يلطخ سمعتهم.‏ وظل للطبيعة الشفهية المنطوقة دورها الأساسي في إثبات حسن السمعة من عدمه.

     ******

  • ويصف السيد أيمن فؤاد السيد انشطار القاهرة إلى جزأين منفصلين بالكلمات التالية: "وبدلًا من إدماج مختلف مكونات المدينة في بنية واحدة، اتجه إسماعيل إلى التوسع المفرط في إنشاء الأحياء الحديثة وبناء القصور تاركًا المدينة القديمة لمصيرها بدلًا من إصلاحها وإدخال تعديلات عليها، واقتصر الأمر على لصق واجهة أوروبية على الحدود الغربية للمدينة القديمة لتوليد انطباع إيجابي لدى ضيوف القاهرة الكبار المدعوين لحضور حفلات افتتاح قناة السويس".


  • يورد الجبرتي كلمات شاعره المفضل وصديقه الحميم حسن الحجازي الذي كتب متشكيًا وساخرًا من قذارة شوارع القاهرة ورائحتها الكريهة قائلا:

    حارات أولاد العرب      سبعًا حَوَت من الكُرَبْ

    بولًّا وغائطًا كـــــذا      ترب غبارٌ سوء أدب

    وضجـــةً وأهـــــلها        شبه عفاريت التُرَبْ 


    •   يبدو أن كتيبات المساعدة الذاتية والتعليم الذاتي الطبي قد ازدهرت في مصر في سبعينيات القرن التاسع عشر وما بعدها، وهذا يوضح أنه بالرغم من انزعاج المؤسسة الرسمية الشديد من جهل وفقر المصريين، فإنه لم يكن في معتقدات الشعب الدينية والثقافية ما يمكن اعتباره عقبة كأداء تعترض طريق رفع المستوى الصحي. وبعد أن حددت الدوائر الصحية العناصر الأساسية المسببة للأمراض، وبعد قيام مختلف سلطات الصحة العامة بتنفيذ إجراءات طموحة في مجال النظافة والصحة العامة، وجَّه كُتاب تلك الكتيبات (ومعظمهم من الأطباء الممارسين) انتباههم إلى الممارسات اليومية للمصريين التي رأوا أنها قابلة للتغيير. وبالتدريج، بدا أن الفقر المدقع الذي عاشت فيه الطبقات الأدنى هو المسئول الأول عن الوضع الصحي المتدني. فقد كان "جهل‏ بعض العامة" هو سبب إلقاء القمامة وجثث الحيوانات النافقة وفضلات المراحيض في نهر النيل وفي الترع والقنوات العديدة المرتبطة به بما أدى إلى "أكبر الضرر".  
         وفي حين ركزت أغلبية هذه الكتابات على الجهل (خاصةً جهل الفلاحين وفقراء الحضر) باعتباره السبب الأساسي للمرض، لا يسع المرء إلا أن يلاحظ فيها إيمانًا عميقًا وراسخًا بإمكانية تخلي الفقراء عن الممارسات غير الصحية وتبنيهم لممارسات أكثر صحة ونظافة. ولا نرى في أي منها طبيبًا يشكو من تشبث الفقراء بعاداتهم غير الصحية. بل على العكس من ذلك، كثيرًا ما أشار الأطباء إلى سرعة تقبّل الفقراء لطرق العلاج والوقاية التي ثبت نجاحها.

    ******

  • حذر كلوت بك من أكل السمك غير الطازج، وصب جام غضبه على الفسيخ، فقال: "كيفما كان تجهيزه فهو قوي الرائحة حاد الطعم منبه للغاية؛ فاليسير منه ينبه الشهية لكن لا يناسب من كانت أعضاء هضمه متنبهة أو فيها استعداد للتنبه. وعلى كل فمتي أريد استعمال شيء منه ينبغي الاحتراس الزائد في استعماله، ومتى كانت فيه شائبة التعفن فلا ينبغي أكله؛ لأنه حينذ يؤثر كالسم المستخرج من الحيوانات العفنة". 

     

     
  • في عام 1840، زار وليم وايلد (والد الكاتب الشهير أوسكار وايلد) قصر العيني، وكتب أن الصيدلية كانت «في منتهى الروعة وشديدة النظافة بالمقارنة بمثيلاتها في إنجلترا، وتتوفر فيها كل الأدوية الضرورية والمطلوبة، وقد تم إعداد وتركيب الكثير من تلك الأدوية في المعمل على يد أبناء البلاد». وبعد ثلاثين عامًا كان صيت المعمل الكيماوي بقصر العيني قد ذاع إلى حد ذكره بالاسم في كتاب بايديكر مصر: دليل المسافرين: «تمتلك‏ القاهرة أيضًا... معملًا كيماويًّا - صيدليًا يرأسه الكيميائي الفرنسي جاستينيل، وتوجد به مجموعة صيدلانية ممتازة. يقوم المعمل بتركيب الأدوية التي تحتاجها كل مستشفيات البلاد وبكميات كبيرة. كما يتم اختبار كل منتجات معامل الملح الصخري الاثني عشر (حوالي ألف طن سنويًا) في ذك المعمل أيضا.


     ******

  • لم يحاول الجبرتي في كتابه إخفاء ازدرائه لمحمد علي وللديوان الذي عكف على إنشائه في مصر. في المقام الأول، يسود كتاب الجبرتي إحساس بالرثاء لعالم يتلاشى. في ذلك العالم، كانت قيم الفروسية والشرف والخير تحد من غلواء العنف الذي مارسه المماليك ضد الفلاحين بين حين وآخر. لكن ذلك العالم قد اختفى، وشعر الجبرتي بالفزع من العنف الجامح الذي تعرض له الفقراء باسم هذا النظام الجديد واحتياجاته العسكرية النهمة التي لا تعرف حدودا، ودون أن تكبحه ضوابط النظام القديم.


    •     العقوبات لم تفرضها عناصر منفلتة في الجهاز البيروقراطي الوليد، وإنما كانت تتم عادة بأوامر من الباشا شخصيًّا أو من أقرب أقربائه. في حادثة مشهورة، كتب محمد علي إلى ابنه إبراهيم شاكيا من المعلم غالي كبير المحاسبين العاملين لديه الذي جرؤ على التعبير عن قدر من التردد في إصدار الأمر بجباية ضريبة جديدة على التمور. وفي حالة من الغضب الشديد، أمر محمد علي ابنه بقتل المعلم غالي. بعد أن قام إبراهيم بتلك الفعلة الشنعاء، وبعد تعبير مرءوسي المعلم غالي بوضوح عن هلعهم مما حدث لرئيسهم، أرسل محمد علي رسالة أخرى إلى ابنه طالبا منه أن يبذل كل جهد ممكن ليسكن روعة المحاسبين المرتعبين.

     

    •      روت إحدى نساء السلالة الملكية قصة عن نازلي، كبرى بنات محمد علي، وهي قصة ظلت الأسرة تتناقلها عبر الأجيال كأسطورة مخيفة برغم مرور قرن من الزمان على حدوثها: «يروى أن نازلي كانت امرأة مفعمة بالجاذبية، تتمتع بالمرح وخفة الظل، لكنها كانت مفرطة القسوة، وتغار غيرة شديدة على زوجها [محمد بك الدفتردار مسئول خزانة محمد علي]، والذي كانت تحبه لدرجة العبادة. تصادف أن أشار محمد بك يومًا ما بكلمة عن إحدى جواريها وشعرها الطويل المموج، واستمعت إليه نازلى صامتة. مساء ذلك اليوم، وُضِعت صينية مغطاة على مائدة العشاء. عندما رُفِع الغطاء رأى محمد بك رأس الجارية تحوطه ضفائرها الجميلة في الصينية. قام وغادر المنزل ولم يعُد إليه بعد ذلك قط.

     

  • مارس محمد علي خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من حكمه ما أسماه فوكو «السلطة السيادية»، وارتكزت سياسته العقابية على التنفيذ العلني الرهيب للعقوبات. كما رأينا في الفصل الرابع، منح محمد علي محتسب القاهرة مطلق الحرية في فرض عقوبات بدنية قاسية على مرتكبي مخالفات السوق.

    عوقِب مزورو العملات بالشنق على بوابات المدينة وبتدبيس قطع نقدية معدنية في أنوفهم، وعوقب الجزارون الذين يُضبطون متلاعبين بموازين اللحم بشق أنوفهم وتعليق قطع من اللحم من جروحهم. أما باعة الكنافة ممن يُضبطون متلاعبين بالموازين والأسعار فعوقبوا بإقعادهم على صوانيهم الساخنة فوق النار. وكان اللصوص يُجرّسون في الأسواق، وتكبل أيديهم ورءوسهم بالأغلال. وحتى منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، كان مرتكبو جرائم القتل يُعاقبون بالشنق وتُترك جثثهم معلقة لمدة ثلاثة أيام في (محل ممر السايرين جزاء للقاتل وعبرة لخلافه).

    بعد فرض‏ التجنيد الإجباري في صعيد مصر، أصبح من المعروف أن بعض النساء كن يساعدن أزواجهن وأبناءهن على تشويه أنفسهم للتهرب من التجنيد، أمر محمد علي بشنق هاتيك النسوة في مداخل القرى «عبرة للأخريات». علاوة‏ على ذلك عندما اندلعت ثورة عارمة على سلطة محمد علي في الصعيد عام ‎1824،‏ أمر الباشا بشنق كبار السن والمعاقين الذين شاركوا فيها على مداخل قراهم؛ تذكرة للآخرين بالمصير الذي ينتظرهم إن فكروا في الانضمام إلى صفوف الثوار.


  • كان الجيش هو أداة محمد علي الأساسية في مسعاه لاستخلاص حكم مصر لنفسه، وكانت الإصلاحات الكبرى التي أدخلها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا الجيش.‏ كانت خدمة الجيش وتلبية احتياجاته هما السبب الرئيسي والحقيقي وراء إنشاء محمد علي للمصانع ولمطبعة بولاق للنشر ولافتتاحه المدارس والمعاهد التعليمية وأهمها مدرسة طب قصر العيني. بفضل هذه الآلة العسكرية الكفؤة، تحولت القاهرة من مجرد عاصمة ولاية إلى مركز قوة يعتد به داخل الدولة العثمانية، نجح في تحدي عاصمة الخلافة وفي تهديد وجود الدولة العثمانية ذاتها تهديدا حقيقيا وخطير.

     

    •    تمكن الخديويون بفضل أجهزة الدولة الحديثة من إحكام سيطرتهم على أهالي مصر بشكل لم يحلم به أمراء المماليك، وبدرجة لم يحققها الباب العالي قط. فقد كان توفر أدوات مثل تعداد السكان والتذكرة، وتطبيق سياسات مثل التجنيد والتطعيم ومناظرة الجثث، وإنشاء مؤسسات مثل الضبطية والمجالس هو الذي أدى إلى تحول «الديوان» إلى «الحكومة»،‏ وهو الذي مكَّن تلك الحكومة من النظر إلى أهالي مصر باعتبارهم رعايا خاضعين لسيادتها. وبمصطلحات البيروقراطية السائدة آنذاك، كان الشخص يعتبر «داخل الحكومة» إذا تم إحصاؤه في تعداد السكان وتم تطعيمه ضد الجدري وحصل على تذكرة مختومة، بهذا كله يكون قد دخل في نطاق اختصاص الحكومة الخديوية. وعلى العكس من ذلك، كان الشخص غير الخاضع للحكومة الخديوية يعتبر «خارج الحكومة»، أي أنه ليس من رعايا الحكومة المصرية، وكان ذلك هو ما دعا السلطات إلى نفي «الأجانب» خارج البلاد وخاصة «أولاد الترك»، وإرسالهم إلى «بر‏ الترك»؛ أي إلى الدولة العثمانية. وبالتالي كانت هذه الممارسات البيروقراطية من أهم أدوات صقل الهوية المصرية الحديثة. 
    ******

     
    - تأليف: خالد فهمي
    - ترجمة: حسام فخر
     
     
     
 
 
 
 

Tuesday, November 14, 2023

أمراض الحضارة

 السرطان وأمراض المناعة الذاتية بمختلف أنواعها تُعتبر إلى حد كبير أمراض حضارة. في حين أن المجتمع الصناعي المنظَّم وفق النموذج الرأسمالي قد حل العديد من المشكلات للعديد من أعضائه –مثل الإسكان والإمداد الغذائي والصرف الصحي– فقد خلق أيضًا ضغوطًا جديدة متعددة حتى لمن لا يحتاجون إلى الكفاح من أجل أساسيات الوجود.

لقد انتهينا إلى اعتبار هذه الضغوط أمرًا مفروغًا منه كعواقب حتمية للحياة البشرية، كما لو أن الحياة البشرية موجودة في شكل مجرد منفصل عن البشر الذين يعيشونها.

عندما ننظر إلى الناس الذين لم يشهدوا الحضارة المدنية إلا مؤخرًا، سنرى بوضوح أكبر أن منافع «التقدم» تفرض تكاليف خفية فيما يتعلق بالتوازن النفسي، ناهيك بالرضا العاطفي والروحي.

كتب هانز سيلي يقول: «يبدو أن الضغط الناتج عن التحضر لدى سكان الزولو قد زاد من معدلات ارتفاع ضغط الدم، مما جعل الناس عرضة للنوبات القلبية. وقد لوحظ التهاب القولون التقرحي في العرب والبدو الرُحَّل الآخرين بعد الاستيطان في مدينة الكويت، ويُفترض كذلك أنه من تبِعات التحضر».

كان التأثير الرئيسي للاتجاهات الحديثة على الأسرة في ظل النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد، والذي تسارع بسبب الدافع الراهن باتجاه «العولمة»، هو تقويض بنية الأسرة وتمزيق الروابط التي كانت توفر للإنسان إحساسًا بالغاية والانتماء. صار الأطفال يقضون فترات تحت رعاية البالغين أقل من أي وقت مضى في مسار التطور البشري. استُبدلت بالروابط التي كانت متأصلة في الماضي في الأسرة الموسَّعة والقرية والمجتمع والحي مؤسساتٌ مثل الحضانة والمدرسة، حيث يكون الأطفال أقرب إلى أقرانهم منهم إلى آباء أو مقدِّمي رعاية يعوَّل عليهم. حتى الأسرة بمفهومها الضيق، والتي يُفترض أنها الوحدة الأساسية لبنية المجتمع، تتعرض لضغط لا يُطاق.

في العديد من العائلات الآن يتعين على كلا الوالدين العمل لتأمين الضروريات الأساسية التي كان يمكن لراتب واحد أن يؤمِّنها قبل بضعة عقود. كتب صاحب البصيرة هانز سيلي يقول: «إن فصل الرضع عن أمهاتهم وجميع أنواع الترحيل الأخرى التي تندر معها فرص التواصل بين الأشخاص هي أشكال شائعة جدًّا للحرمان الحسي، وقد تصبح عوامل رئيسة في المرض».

***

إن الفصل بين العقل والجسد الذي تقوم عليه الممارسة الطبية هو أيضًا الأيديولوجية السائدة في ثقافتنا. قلَّما نفكر في التركيبات والممارسات الاجتماعية الاقتصادية كمحددات للمرض أو السلامة. تلك ليست في العادة «جزءًا من المعادلة». ومع ذلك، فإن البيانات العلمية لا جدال فيها: العلاقات الاجتماعية الاقتصادية لها تأثير عميق على الصحة.
على سبيل المثال، على الرغم من أن وسائل الإعلام والمهن الطبية –المستوحاة من البحوث الصيدلانية – تروِّج بلا كلل لفكرة أن ارتفاع الكوليسترول هو عامل الخطر الأكبر للإصابة بأمراض القلب بعد ارتفاع ضغط الدم والتدخين، فإن الأدلة تقول إن ضغط العمل أهم من كل عوامل الخطر الأخرى مجتمعة. ناهيك بأن الضغط النفسي بشكل عام وضغط العمل بشكل خاص يساهمان بشكل كبير في ارتفاع ضغط الدم وارتفاع مستويات الكوليسترول في الدم.
 
- جابور ماتيه، من كتاب: عندما يقول الجسد لا (16- رقصة الأجيال)
ترجمة: إيمان سعودي
Charlie Chaplin, Modern Times (1936)

Cancer and the autoimmune diseases of various sorts are, by and large, diseases of civilization. While industrialized society organized along the capitalist model has solved many problems for many of its members—such as housing, food supply and sanitation—it has also created numerous new pressures even for those who do not need to struggle for the basics of existence.
 
We have come to take these stresses for granted as inevitable consequences of human life, as if human life existed in an abstract form separable from the human beings who live it.
 
When we look at people who only recently have come to experience urban civilization, we can see more clearly that the benefits of “progress” exact hidden costs in terms of physiological balance, to say nothing of emotional and spiritual satisfaction.
 
Hans Selye wrote, “Apparently in a Zulu population, the stress of urbanization increased the incidence of hypertension, predisposing people to heart accidents. In Bedouins and other nomadic Arabs, ulcerative colitis has been noted after settlement in Kuwait City, presumably as a consequence of urbanization.”
 
The main effect of recent trends on the family under the prevailing socio-economic system, accelerated by the current drive to “globalization,” has been to undermine the family structure and to tear asunder the connections that used to provide human beings with a sense of meaning and belonging. Children spend less time around nurturing adults than ever before during the course of human evolution. The nexus previously based in extended family, village, community and neighbourhood has been replaced by institutions such as daycare and school, where children are more oriented to their peers than to reliable parents or parent substitutes. Even the nuclear family, supposedly the basic unit of the social structure, is under intolerable pressure.
 
In many families now, both parents are having to work to assure the basic necessities one salary could secure a few decades ago. “[The] separation of infants from their mothers and all other types of relocation which leave few possibilities for interpersonal contact are very common forms of sensory deprivation; they may become major factors in disease,” wrote the prescient Hans Selye.
***
 
The separation of mind and body that informs medical practice is also the dominant ideology in our culture. We do not often think of socio-economic structures and practices as determinants of illness or well-being. They are not usually “part of the equation.” Yet the scientific data is beyond dispute: socio-economic relationships have a profound influence on health.
 
For example, although the media and the medical profession—inspired by pharmaceutical research—tirelessly promote the idea that next to hypertension and smoking, high cholesterol poses the greatest risk for heart disease, the evidence is that job strain is more important than all the other risk factors combined. Further, stress in general and job strain in particular are significant contributors both to high blood pressure and to elevated cholesterol levels.
 
- Gabor Maté, When the Body Says No (16- The Dance of Generations)
 

رقصة الأجيال

 إن التربية باختصار هي رقصة الأجيال. أيما أثَّر في أحد الأجيال ولم يُحسم أمره بالكامل سوف ينتقل إلى الجيل التالي.

عبَّر لانس مورو، الصحفي والكاتب، بإيجاز عن الطبيعة متعددة الأجيال للضغط النفسي في كتابه «القلب»، وهو سرد جميل وموجِع لمواجهاته مع الموت، التي فرضتها عليه أمراض قلب كادت تودي بحياته:

- «الأجيال صناديق داخل صناديق: داخل عنف أمي تجد صندوقًا آخر، يحتوي على عنف جدي، وداخل هذا الصندوق (أظن لكني لست متأكدًا)، ستجد صندوقًا آخر به شيء من الطاقة السوداء الخفية المماثلة. قصص داخل قصص تنحسر بمرور الزمن».

ويصبح اللوم فكرة عبثية إذا فهم المرء كيف يمتد تاريخ أسرته إلى أجيال خلت. كتب جون بولبي، الطبيب النفسي البريطاني الذي ألقت بحوثه ضوءًا علميًّا على الأهمية الكبرى للتعلق في مرحلتَي الرضاعة والطفولة: «لن تلبث هذه المعرفة أن تبدد أي رغبة في اعتبار الأب شريرًا». فمن نتهم؟

- جابور ماتيه، من كتاب: عندما يقول الجسد لا (16- رقصة الأجيال)
ترجمة: إيمان سعودي

 


Parenting, in short, is a dance of the generations. Whatever affected one generation but has not been fully resolved will be passed on to the next.
Lance Morrow, a journalist and writer, succinctly expressed the multi-generational nature of stress in his book Heart , a wrenching and beautiful account of his encounters with mortality, thrust upon him by near-fatal heart disease:
- “The generations are boxes within boxes: Inside my mother’s violence you find another box, which contains my grandfather’s violence, and inside that box (I suspect but do not know), you would find another box with some such black, secret energy—stories within stories, receding in time.
Blame becomes a meaningless concept if one understands how family history stretches back through the generations. “Recognition of this quickly dispels any disposition to see the parent as villain,” wrote John Bowlby, the British psychiatrist whose work threw scientific light on the decisive importance of attachment in infancy and childhood. Whom do we accuse?
 
- Gabor Maté, When the Body Says No (16- The Dance of Generations)
 


Thursday, November 9, 2023

هل كان لديك شخص يمكنك التحدث إليه؟

- "عندما كنت تشعر في طفولتك بالحزن أو الغضب أو الانزعاج، هل كان لديك شخص يمكنك التحدث إليه حتى وإن كان هو أو هي من أثار عواطفك السلبية؟"

في ربع القرن من ممارستي السريرية، بما فيها عقد كامل من العمل في الرعاية التلطيفية، لم أسمع قط أحدًا مصابًا بالسرطان أو بأي مرض أو حالة مزمنة يجيب بـ"نعم" عن هذا السؤال.

لقد تكيف العديد من الأطفال على هذا النحو ليس بسبب أي أذى أو سوء معاملة مقصودة، ولكن بسبب أن الوالدين نفسهما كانا ينزعجان من القلق أو الغضب أو الحزن الذي يحسانه في أطفالهما، أو كانا ببساطة مشغولين أكثر من اللازم، أو منهكين أكثر من اللازم لدرجة لا تسمح لهما بالاهتمام. كانت عبارة «أبي وأمي يريدان مني أن أكون سعيدًا» هي الصيغة البسيطة التي برمجت عديدًا من الأطفال –الذين أصبحوا فيما بعد بالغين مضغوطين ومكتئبين أو مرضى جسديًّا– على أنماط طويلة المدى من القمع.

- جابور ماتيه، من كتاب: عندما يقول الجسد لا (9- هل توجد شخصية سرطانية؟)
ترجمة: إيمان سعودي



"When, as a child, you felt sad, upset or angry, was there anyone you could talk to—even when he or she was the one who had triggered your negative emotions?"
In a quarter century of clinical practice, including a decade of palliative work, I have never heard anyone with cancer or with any chronic illness or condition say "yes" to that question.
Many children are conditioned in this manner not because of any intended harm or abuse, but because the parents themselves are too threatened by the anxiety, anger or sadness they sense in their child—or are simply too busy or too harassed themselves to pay attention. “My mother or father needed me to be happy” is the simple formula that trained many a child—later a stressed and depressed or physically ill adult—into lifelong patterns of repression.
 
- Gabor Maté, When the Body Says No (9- Is there a Cancer personality?)

 

 

شخصية سرطانية؟


في عام 1991، درس الباحثون في ملبورن بأستراليا ما إذا كانت سمات الشخصية تمثل عاملَ خطر في الإصابة بسرطان القولون أو المستقيم. قورن أكثر من ستمئة فرد، ممن شُخِّصوا حديثًا، بمجموعة متطابقة من الأصحاء. وتبين أن مرضى السرطان كانوا أكثر ميلًا بدرجة ملحوظة إلى إظهار السمات التالية: «عناصر إنكار وقمع الغضب والعواطف السلبية الأخرى... المظهر الخارجي لشخص «لطيف» أو «طيب»، وكبح ردود الفعل التي قد تضايق الغير، وتفادي النزاعات... وقد قيس خطر الإصابة بسرطان القولون أو المستقيم في هذا النموذج بمعزل عن عوامل الخطر المكتشَفة سابقًا بما فيها الحمية الغذائية واستهلاك الخمور والتاريخ الأسري». كانت التعاسة في الطفولة أو الكِبر التي أبلغ عنها المرضى أنفسهم أكثر شيوعًا بين حالات سرطان الأمعاء.

***

وفي حين لا يسعنا القول إن ثمة نوعًا معينًا من الشخصية يسبب السرطان، فإن بعض سمات الشخصية تزيد بالتأكيد من الخطر، لأنها من المرجح أن تولِّد ضغوطًا فسيولوجية. يؤدي القمع والعجز عن قول لا وقلة الوعي بالغضب إلى زيادة احتمالية أن يجد المرء نفسه في مواقف يعجز فيها عن التعبير عن عواطفه ويتجاهل فيها الآخرون احتياجاته ويستغلون لطفه. تستحث هذه المواقف الضغط النفسي، سواء كان المرء واعيًا بها أم لا. وبينما تتكرر وتتراكم على مر السنين، يصبح لديها القدرة على الإخلال بتوازن الجسم وبجهازه المناعي. إن الضغط النفسي –وليس الشخصية في حد ذاتها– هو الذي يقوض التوازن الفسيولوجي والدفاعات المناعية، مما يهيئ الجسم للإصابة بالمرض أو يقلل من مقاومته له.

***

الطريقة التي ينشأ بها الناس تشكل علاقتهم بأجسادهم ونفسياتهم. تتفاعل سياقات الطفولة العاطفية مع الطباع الفطرية لتسفر عن سمات الشخصية. إن أغلب ما نسميه بالشخصية ليس مجموعة ثابتة من السمات، وإنما آليات تكيف اكتسبها المرء في مرحلة الطفولة. ثمة فرق مهم بين السمة المتأصلة، المتجذرة في الفرد بغض النظر عن بيئته، وبين الاستجابة إلى البيئة، نمط السلوكيات الذي يتطور لضمان النجاة.

***

عندما كنت تشعر في طفولتك بالحزن أو الغضب أو الانزعاج، هل كان لديك شخص يمكنك التحدث إليه حتى وإن كان هو أو هي من أثار عواطفك السلبية؟ في ربع القرن من ممارستي السريرية، بما فيها عقد كامل من العمل في الرعاية التلطيفية، لم أسمع قط أحدًا مصابًا بالسرطان أو بأي مرض أو حالة مزمنة يجيب بنعم عن هذا السؤال. لقد تكيف العديد من الأطفال على هذا النحو ليس بسبب أي أذى أو سوء معاملة مقصودة، ولكن بسبب أن الوالدين نفسهما كانا ينزعجان من القلق أو الغضب أو الحزن الذي يحسانه في أطفالهما، أو كانا ببساطة مشغولين أكثر من اللازم، أو منهكين أكثر من اللازم لدرجة لا تسمح لهما بالاهتمام. كانت عبارة «أبي وأمي يريدان مني أن أكون سعيدًا» هي الصيغة البسيطة التي برمجت عديدًا من الأطفال –الذين أصبحوا فيما بعد بالغين مضغوطين ومكتئبين أو مرضى جسديًّا– على أنماط طويلة المدى من القمع.

 ***

 

د. جابور ماتيه، من كتاب «عندما يقول الجسد لا»
من فصل: هل توجد شخصية سرطانية؟

 

© Felipe Portella


 

Thursday, November 2, 2023

عن الكفاءة العاطفية - On Emotional Competence

 كتب روس باك أن الانضباط الذاتي يتضمن جزئيًّا اكتساب الكفاءة العاطفية؛ والتي تُعرف بأنها قدرة المرء على التعامل بطريقة مناسبة ومُرضية مع مشاعره ورغباته.

 

تستلزم الكفاءة العاطفية قدرات غالبًا ما يفتقر إليها مجتمعنا، حيث «البرود» -غياب المشاعر– هو المبدأ السائد، وحيث يسمع الأطفال في أكثر الأحيان عبارات من قبيل «لا تبالغ في انفعالاتك» و«لا تكن حساسًا هكذا»، وحيث تُعد العقلانية عمومًا النقيض المفضَّل للعاطفية. إن الرمز الثقافي المثالي للعقلانية لدينا هو «السيد سبوك»، الشخصية الخيالية منعدمة العواطف في سلسلة أفلام ستار تريك.

 

تتطلب الكفاءة العاطفية:

• القدرة على الإحساس بعواطفنا، بحيث نكون مدركين إذا ما أصابنا الضغط النفسي.

• القدرة على التعبير عن عواطفنا بفعالية ومن ثم المطالبة باحتياجاتنا والحفاظ على سلامة حدودنا العاطفية. 

• مهارة التمييز بين ردود الفعل النفسية ذات الصلة بالوضع الحالي وتلك التي تمثل بقايا الماضي. لا بد أن يتوافق ما نريده ونطالب العالم به مع احتياجاتنا الحالية، وليس مع احتياجات لا واعية غير مشبعة منذ الطفولة. إذا طُمست الفروق بين الماضي والحاضر، سنستشعر الفقدان وخطر الفقدان دون وجود لأي منهما. 

• وأخيرًا الوعي بالاحتياجات الحقيقية التي تتطلب بالفعل إشباعًا، بدلًا من قمعها من أجل نيل استحسان الآخرين وقبولهم.

***

يحدث الضغط النفسي عندما تغيب هذه المعايير، ويؤدي إلى اختلال التوازن. الاختلال المزمن بدوره يؤدي إلى اعتلال الصحة. في كل تواريخ المرض الفردية المذكورة في هذا الكتاب، تضرر جانب أو أكثر من جوانب الكفاءة العاطفية إلى حد بعيد، وبطرق عادةً ما تكون مجهولة تمامًا للشخص المعني.

 

الكفاءة العاطفية هي ما نحتاج إلى تنميته إذا كنا نريد حماية أنفسنا من الضغوط الخفية التي تشكل خطرًا على صحتنا، وهي ما نحن بحاجة إلى استعادته إذا كنا نريد التعافي. والأهم هو أن نغرس بذورها في أطفالنا، لأن الوقاية خيرٌ من العلاج.

 

- جابور ماتيه، من كتاب: عندما يقول الجسد لا ( 3 - الضغط النفسي والكفاءة العاطفية)

 


 
Self-regulation, writes Ross Buck, “involves in part the attainment of emotional competence, which is defined as the ability to deal in an appropriate and satisfactory way with one’s own feelings and desires.”

Emotional competence presupposes capacities often lacking in our society, where “cool”—the absence of emotion—is the prevailing ethic, where “don’t be so emotional” and “don’t be so sensitive” are what children often hear, and where rationality is generally considered to be the preferred antithesis of emotionality. The idealized cultural symbol of rationality is Mr. Spock, the emotionally crippled Vulcan character on Star Trek.

 
Emotional competence requires:

  • the capacity to feel our emotions, so that we are aware when we are experiencing stress;
  • the ability to express our emotions effectively and thereby to assert our needs and to maintain the integrity of our emotional boundaries;
  • the facility to distinguish between psychological reactions that are pertinent to the present situation and those that represent residue from the past. What we want and demand from the world needs to conform to our present needs, not to unconscious, unsatisfied needs from childhood. If distinctions between past and present blur, we will perceive loss or the threat of loss where none  exists;

  • the awareness of those genuine needs that do require satisfaction, rather than their repression for the sake of gaining the acceptance or approval of others.

    ***

      Stress occurs in the absence of these criteria, and it leads to the disruption of homeostasis. Chronic disruption results in ill health. In each of the individual histories of illness in this book, one or more aspect of emotional competence was significantly compromised, usually in ways entirely unknown to the person involved.


    Emotional competence is what we need to develop if we are to protect ourselves from the hidden stresses that create a risk to health, and it is what we need to regain if we are to heal. We need to foster emotional competence in our children, as the best preventive medicine.

     

    - Gabor Maté, When the Body Says No (3- Stress and Emotional Competence)

 

المعنى وغيابه

  Place des Lices, Paul Signac تحاول ثقافتنا المادية تفسير الإيثار على أنه نابع من دوافع أنانية. وكثيرًا ما يُقال بسخرية إن الأشخاص الذين يت...