...بتقديم سرد مفصل لكيفية ومسار تطور مجالي الطب والقانون في القرن التاسع عشر، يدرس السعي للعدالة العناصر المحددة التي تضمنها بناء الدولة الحديثة، وكيف فهم المصريون تلك العناصر وكيف تعاملوا معها جسديًا.
ويرى هذا الكتاب أن الدولة المصرية الحديثة أُنشثت من خلال وضع أساليب وتقنيات مكنتها من الرقابة على أجساد رعاياها والتحكم فيها. وتضمنت تلك الأساليب حملات التطعيم ضد الجدري، وتسجيل المواليد، والكشف على الأموات، والحجر الصحي، والتعذيب، والتشريح. وهكذا وجد المصريون أجسادهم وقد أصبحت حرفيًا موضوعًا لرقابة ومتابعة وتحكم لم يسبق لها مثيل، من المهد إلى اللحد، وربما إلى ما بعده أيضا. ويرسم هذا الكتاب صورة لطريقة إدخال هذه الممارسات المبتكرة وكيفية صقلها وتكييفها عبر العصور. وينظر أيضًا في الطريقة التي فهم بها الأهالي هذا التحكم غير المسبوق في أجسادهم، وكيف تعاملوا مع هذا التحكم أو قاوموه.
******
ومنذ وقت مبكر يرجع إلى عام 1848 كان يتم تدبيج شكاوى منتظمة بشأن الرائحة النتنة التي تفوح في غرف المرضى، وهي الرائحة التي اشتهرت بين المرضى باسم «عفونة الإسبتاليات» أو «رائحة المرستان». وبعد تسع سنوات كان تدبيج التقارير عن القذارة والرائحة النتنة في المستشفى والملاءات القذرة التي لا يتم تغييرها بعد كل مريض ما زال مستمرا.
- وفي حادث آخر رفعت ادعاءات بالخطا المهني ضد محمد الشباسي، وهو طبيب عالي الرتبة وعضو هيئة التدريس في مدرسة الطب، وواحد من أوائل الأطباء الذين أُرسلوا إلى فرنسا عام 1832، وعُيِّن عند عودته بعد ست سنوات أستاذا لعلم التشريح والجراحة، وهما منصبان مرموقان للغاية في المدرسة الطبية. أما في المستشفي، فكان مسئولا عن عنبر الإفرنكي الذي كان بدوره من أهم أقسام المستشفى نظرا إلى أعداد المرضى الكبيرة به. ولكن ييدو من سجلات شورى الأطبا وديوان خديوي أن سيرة الشباسي العملية في هذه الوظيفة لم تكن ناصعة البياض؛ إذ أشيع أنه كان يمارس تشريح الأحياء في عنبره.
"...فالحالة هذه صدر الأمر إلى ناظر إسبتالية المُلكية بأن من الآن وصاعد لا يقبل أحدا من المرضى ما لم يكن معه تذكرة إما من ضابط المحروسة [أي رئيس ضبطية مصر الذي كان بمثابة مدير مديرية أمن القاهرة] وإما من شيخ الثمن."
ويتساءل كلوت بك، رئيس شورى الأطبا، في هذه الرسالة إلى رؤسائه في ديوان الجهادية عن الصعوبات التي قد يواجهها المرضى لتنفيذ هذا الأمر: ماذا يفعلون عندما يحتاجون لدخول المستشفى على وجه السرعة، ولكنهم لا يعثرون على ضابط المحروسة أو شيخ الثُمن لكي يأخذوا منه التذكرة اللازمة؟
وعندما تلقى جوابا يفيد بالمزيد من الإجراءات البيروقراطية، كتب كلوت بك خطابا شديد اللهجة يشتكي فيه من هذه التعقيدات: "بهذه الكيفية المريض يمكنه أن يهلك بسبب مرضه وفي هذه الحالة تذكرة دخول الإسبتالية يكون استعواضهم بتذكرة دخول المقبرة".
وحقيقة الأمر أن محمد علي في السنوات الخمس عشرة الأولى من حكمه الطويل لم يبدِ أي اهتمام حقيقي بحالة شعب مصر أو بزيادة إنتاجيته أو بتحسين ظروف معيشته. بل إنه تصرف خلال تلك السنوات الأولى من حكمه كما يرد تحديدًا في تعريف "فوكو" لدور الحاكم، وهو أن يجعل مصير مملكته مرتبطًا به.
عندما تولى محمد علي حكم مصر كان أول قراراته هو استدعاء أبنائه وغيرهم من أقاربه من "قولة" والأماكن المجاورة لها إلى مصر. وعيَّن أبناءه وابناء إخوته وأبناء عمومته وغيرهم من الأقارب حكامًا لمقاطعات هامة في مصر. وبعد ذلك بدأ في حملة لا تعرف رحمة ولا هوادة لاستئصال أي معارضة لسلطته، ولوأد أي مراكز قوى في مصر. ومن أشهر تلك الأعمال وأكثرها قسوة مذبحة المماليك في مارس 1811 عندما دعا محمد علي كبار المماليك إلى القلعة وأمر جنوده بإطلاق النار عليهم. في ذلك اليوم لقيَّ أكثر من أربعمائة مملوك مصرعهم وانتهى وجود المماليك في مصر إلى الأبد.
وإذ أصبحت مصر ملكًا خالصًا له، أمر الباشا رجاله باستلاب كل مليم من أيدي أهل مصر.
- وفي ذروة تفشي الوباء، سمع الباشا عن نية مشايخ القاهرة جمع سكان المدينة في صلوات القنوت للتضرع إلى الله بأن يشملهم برحمته، وعندها وجه توبيخًا للمشايخ قائلًا إن مثل تلك التجمعات الكبيرة في أماكن مزدحمة لن تؤدي إلا إلى زيادة تفشي الوباء، وإن على الراغبين في التضرع إلى الله راجين رحمته أن يقوموا بذلك منفردين داخل بيوتهم.
بالتالي في ضوء الطريقة المحددة التي نُفذت بها إجراءات الحجر الصحي، أن الاهتمام بلقمة العيش كان هو العنصر الأساسي في خلق وتشكيل موقف الأهالي من الحجر الصحي. ولم تكن الحساسية الدينية إزاء التعامل مع جثث الموتى ولا الرؤية القدرية العنصريْن الأساسيين في تشكيل ذلك الموقف.
******
كانت سمعة أي فرد تتأسس على الذاكرة الحية لمجتمع محلي ما وحكاياته الشفوية، وعادةً كان لتلك السمعة أثر حاسم في الحكم الذي يصدره القاضي الشرعي. كلمةfame ذيوع الصيت باللغة الإنجليزية ذات مفهوم شفهي أساسا، وجذرها اللاتيني fama يعني الحديث أو الكلام.
وفي اللغة العربية نجد نفس الصلة بين الكلام الشفهي والسمعة: فكلمتا «السمعة» , «السمع» تنبعان من نفس المصدر. وكما أوضح پيترز فقد كانت تلك الأحاديث والأقوال الشفهية ذات أثر عميق على سمعة أي شخص؛ وبالتالي كان لها آثرها الضمني على الحكم ببراءته أو إدانته: "كان للمجتمعات المحلية سلطة بعيدة الأثر على أفرادها من خلال تلك الأحاديث والأقوال الشفهية. فشهادتها أو توصيفها لشخصية فرد أو سمعته، مثل وصفه بأنه اعتاد الخروج على القانون، كانت العنصر الأساسي في إصدار حكم بالإعدام أو حكم بمجرد نفيه خارج حيه أو قريته".
ومن الثابت أن بعض الناس كانوا يتواصلون أو يتحدثون مع القاضي في بعض الأحيان ليسردوا عليه حكايتهم الشخصية للأحداث، وكانوا في قيامهم بهذا يمحون من سجل المحكمة المكتوب أي إشارة إلى جريمة سابقة، أو أي شك يجمع عليه أفراد مجتمعهم المحلي من شأنه أن يلطخ سمعتهم. وظل للطبيعة الشفهية المنطوقة دورها الأساسي في إثبات حسن السمعة من عدمه.
******
ويصف السيد أيمن فؤاد السيد انشطار القاهرة إلى جزأين منفصلين بالكلمات التالية: "وبدلًا من إدماج مختلف مكونات المدينة في بنية واحدة، اتجه إسماعيل إلى التوسع المفرط في إنشاء الأحياء الحديثة وبناء القصور تاركًا المدينة القديمة لمصيرها بدلًا من إصلاحها وإدخال تعديلات عليها، واقتصر الأمر على لصق واجهة أوروبية على الحدود الغربية للمدينة القديمة لتوليد انطباع إيجابي لدى ضيوف القاهرة الكبار المدعوين لحضور حفلات افتتاح قناة السويس".
يورد الجبرتي كلمات شاعره المفضل وصديقه الحميم حسن الحجازي الذي كتب متشكيًا وساخرًا من قذارة شوارع القاهرة ورائحتها الكريهة قائلا:
حارات أولاد العرب سبعًا حَوَت من الكُرَبْ
بولًّا وغائطًا كـــــذا ترب غبارٌ سوء أدب
وضجـــةً وأهـــــلها شبه عفاريت التُرَبْ
- يبدو أن كتيبات المساعدة الذاتية والتعليم الذاتي الطبي قد ازدهرت في مصر في سبعينيات القرن التاسع عشر وما بعدها، وهذا يوضح أنه بالرغم من انزعاج المؤسسة الرسمية الشديد من جهل وفقر المصريين، فإنه لم يكن في معتقدات الشعب الدينية والثقافية ما يمكن اعتباره عقبة كأداء تعترض طريق رفع المستوى الصحي. وبعد أن حددت الدوائر الصحية العناصر الأساسية المسببة للأمراض، وبعد قيام مختلف سلطات الصحة العامة بتنفيذ إجراءات طموحة في مجال النظافة والصحة العامة، وجَّه كُتاب تلك الكتيبات (ومعظمهم من الأطباء الممارسين) انتباههم إلى الممارسات اليومية للمصريين التي رأوا أنها قابلة للتغيير. وبالتدريج، بدا أن الفقر المدقع الذي عاشت فيه الطبقات الأدنى هو المسئول الأول عن الوضع الصحي المتدني. فقد كان "جهل بعض العامة" هو سبب إلقاء القمامة وجثث الحيوانات النافقة وفضلات المراحيض في نهر النيل وفي الترع والقنوات العديدة المرتبطة به بما أدى إلى "أكبر الضرر".
وفي حين ركزت أغلبية هذه الكتابات على الجهل (خاصةً جهل الفلاحين وفقراء الحضر) باعتباره السبب الأساسي للمرض، لا يسع المرء إلا أن يلاحظ فيها إيمانًا عميقًا وراسخًا بإمكانية تخلي الفقراء عن الممارسات غير الصحية وتبنيهم لممارسات أكثر صحة ونظافة. ولا نرى في أي منها طبيبًا يشكو من تشبث الفقراء بعاداتهم غير الصحية. بل على العكس من ذلك، كثيرًا ما أشار الأطباء إلى سرعة تقبّل الفقراء لطرق العلاج والوقاية التي ثبت نجاحها.******
حذر كلوت بك من أكل السمك غير الطازج، وصب جام غضبه على الفسيخ، فقال: "كيفما كان تجهيزه فهو قوي الرائحة حاد الطعم منبه للغاية؛ فاليسير منه ينبه الشهية لكن لا يناسب من كانت أعضاء هضمه متنبهة أو فيها استعداد للتنبه. وعلى كل فمتي أريد استعمال شيء منه ينبغي الاحتراس الزائد في استعماله، ومتى كانت فيه شائبة التعفن فلا ينبغي أكله؛ لأنه حينذ يؤثر كالسم المستخرج من الحيوانات العفنة".
في عام 1840، زار وليم وايلد (والد الكاتب الشهير أوسكار وايلد) قصر العيني، وكتب أن الصيدلية كانت «في منتهى الروعة وشديدة النظافة بالمقارنة بمثيلاتها في إنجلترا، وتتوفر فيها كل الأدوية الضرورية والمطلوبة، وقد تم إعداد وتركيب الكثير من تلك الأدوية في المعمل على يد أبناء البلاد». وبعد ثلاثين عامًا كان صيت المعمل الكيماوي بقصر العيني قد ذاع إلى حد ذكره بالاسم في كتاب بايديكر مصر: دليل المسافرين: «تمتلك القاهرة أيضًا... معملًا كيماويًّا - صيدليًا يرأسه الكيميائي الفرنسي جاستينيل، وتوجد به مجموعة صيدلانية ممتازة. يقوم المعمل بتركيب الأدوية التي تحتاجها كل مستشفيات البلاد وبكميات كبيرة. كما يتم اختبار كل منتجات معامل الملح الصخري الاثني عشر (حوالي ألف طن سنويًا) في ذك المعمل أيضا.
******
لم يحاول الجبرتي في كتابه إخفاء ازدرائه لمحمد علي وللديوان الذي عكف على إنشائه في مصر. في المقام الأول، يسود كتاب الجبرتي إحساس بالرثاء لعالم يتلاشى. في ذلك العالم، كانت قيم الفروسية والشرف والخير تحد من غلواء العنف الذي مارسه المماليك ضد الفلاحين بين حين وآخر. لكن ذلك العالم قد اختفى، وشعر الجبرتي بالفزع من العنف الجامح الذي تعرض له الفقراء باسم هذا النظام الجديد واحتياجاته العسكرية النهمة التي لا تعرف حدودا، ودون أن تكبحه ضوابط النظام القديم.
- العقوبات لم تفرضها عناصر منفلتة في الجهاز البيروقراطي الوليد، وإنما كانت تتم عادة بأوامر من الباشا شخصيًّا أو من أقرب أقربائه. في حادثة مشهورة، كتب محمد علي إلى ابنه إبراهيم شاكيا من المعلم غالي كبير المحاسبين العاملين لديه الذي جرؤ على التعبير عن قدر من التردد في إصدار الأمر بجباية ضريبة جديدة على التمور. وفي حالة من الغضب الشديد، أمر محمد علي ابنه بقتل المعلم غالي. بعد أن قام إبراهيم بتلك الفعلة الشنعاء، وبعد تعبير مرءوسي المعلم غالي بوضوح عن هلعهم مما حدث لرئيسهم، أرسل محمد علي رسالة أخرى إلى ابنه طالبا منه أن يبذل كل جهد ممكن ليسكن روعة المحاسبين المرتعبين.
- روت إحدى نساء السلالة الملكية قصة عن نازلي، كبرى بنات محمد علي، وهي قصة ظلت الأسرة تتناقلها عبر الأجيال كأسطورة مخيفة برغم مرور قرن من الزمان على حدوثها: «يروى أن نازلي كانت امرأة مفعمة بالجاذبية، تتمتع بالمرح وخفة الظل، لكنها كانت مفرطة القسوة، وتغار غيرة شديدة على زوجها [محمد بك الدفتردار مسئول خزانة محمد علي]، والذي كانت تحبه لدرجة العبادة. تصادف أن أشار محمد بك يومًا ما بكلمة عن إحدى جواريها وشعرها الطويل المموج، واستمعت إليه نازلى صامتة. مساء ذلك اليوم، وُضِعت صينية مغطاة على مائدة العشاء. عندما رُفِع الغطاء رأى محمد بك رأس الجارية تحوطه ضفائرها الجميلة في الصينية. قام وغادر المنزل ولم يعُد إليه بعد ذلك قط.
- العقوبات لم تفرضها عناصر منفلتة في الجهاز البيروقراطي الوليد، وإنما كانت تتم عادة بأوامر من الباشا شخصيًّا أو من أقرب أقربائه. في حادثة مشهورة، كتب محمد علي إلى ابنه إبراهيم شاكيا من المعلم غالي كبير المحاسبين العاملين لديه الذي جرؤ على التعبير عن قدر من التردد في إصدار الأمر بجباية ضريبة جديدة على التمور. وفي حالة من الغضب الشديد، أمر محمد علي ابنه بقتل المعلم غالي. بعد أن قام إبراهيم بتلك الفعلة الشنعاء، وبعد تعبير مرءوسي المعلم غالي بوضوح عن هلعهم مما حدث لرئيسهم، أرسل محمد علي رسالة أخرى إلى ابنه طالبا منه أن يبذل كل جهد ممكن ليسكن روعة المحاسبين المرتعبين.
مارس محمد علي خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من حكمه ما أسماه فوكو «السلطة السيادية»، وارتكزت سياسته العقابية على التنفيذ العلني الرهيب للعقوبات. كما رأينا في الفصل الرابع، منح محمد علي محتسب القاهرة مطلق الحرية في فرض عقوبات بدنية قاسية على مرتكبي مخالفات السوق.
عوقِب مزورو العملات بالشنق على بوابات المدينة وبتدبيس قطع نقدية معدنية في أنوفهم، وعوقب الجزارون الذين يُضبطون متلاعبين بموازين اللحم بشق أنوفهم وتعليق قطع من اللحم من جروحهم. أما باعة الكنافة ممن يُضبطون متلاعبين بالموازين والأسعار فعوقبوا بإقعادهم على صوانيهم الساخنة فوق النار. وكان اللصوص يُجرّسون في الأسواق، وتكبل أيديهم ورءوسهم بالأغلال. وحتى منتصف خمسينيات القرن التاسع عشر، كان مرتكبو جرائم القتل يُعاقبون بالشنق وتُترك جثثهم معلقة لمدة ثلاثة أيام في (محل ممر السايرين جزاء للقاتل وعبرة لخلافه).
بعد فرض التجنيد الإجباري في صعيد مصر، أصبح من المعروف أن بعض النساء كن يساعدن أزواجهن وأبناءهن على تشويه أنفسهم للتهرب من التجنيد، أمر محمد علي بشنق هاتيك النسوة في مداخل القرى «عبرة للأخريات». علاوة على ذلك عندما اندلعت ثورة عارمة على سلطة محمد علي في الصعيد عام 1824، أمر الباشا بشنق كبار السن والمعاقين الذين شاركوا فيها على مداخل قراهم؛ تذكرة للآخرين بالمصير الذي ينتظرهم إن فكروا في الانضمام إلى صفوف الثوار.
كان الجيش هو أداة محمد علي الأساسية في مسعاه لاستخلاص حكم مصر لنفسه، وكانت الإصلاحات الكبرى التي أدخلها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا الجيش. كانت خدمة الجيش وتلبية احتياجاته هما السبب الرئيسي والحقيقي وراء إنشاء محمد علي للمصانع ولمطبعة بولاق للنشر ولافتتاحه المدارس والمعاهد التعليمية وأهمها مدرسة طب قصر العيني. بفضل هذه الآلة العسكرية الكفؤة، تحولت القاهرة من مجرد عاصمة ولاية إلى مركز قوة يعتد به داخل الدولة العثمانية، نجح في تحدي عاصمة الخلافة وفي تهديد وجود الدولة العثمانية ذاتها تهديدا حقيقيا وخطير.
- تمكن الخديويون بفضل أجهزة الدولة الحديثة من إحكام سيطرتهم على أهالي مصر بشكل لم يحلم به أمراء المماليك، وبدرجة لم يحققها الباب العالي قط. فقد كان توفر أدوات مثل تعداد السكان والتذكرة، وتطبيق سياسات مثل التجنيد والتطعيم ومناظرة الجثث، وإنشاء مؤسسات مثل الضبطية والمجالس هو الذي أدى إلى تحول «الديوان» إلى «الحكومة»، وهو الذي مكَّن تلك الحكومة من النظر إلى أهالي مصر باعتبارهم رعايا خاضعين لسيادتها. وبمصطلحات البيروقراطية السائدة آنذاك، كان الشخص يعتبر «داخل الحكومة» إذا تم إحصاؤه في تعداد السكان وتم تطعيمه ضد الجدري وحصل على تذكرة مختومة، بهذا كله يكون قد دخل في نطاق اختصاص الحكومة الخديوية. وعلى العكس من ذلك، كان الشخص غير الخاضع للحكومة الخديوية يعتبر «خارج الحكومة»، أي أنه ليس من رعايا الحكومة المصرية، وكان ذلك هو ما دعا السلطات إلى نفي «الأجانب» خارج البلاد وخاصة «أولاد الترك»، وإرسالهم إلى «بر الترك»؛ أي إلى الدولة العثمانية. وبالتالي كانت هذه الممارسات البيروقراطية من أهم أدوات صقل الهوية المصرية الحديثة.
******- تأليف: خالد فهمي- ترجمة: حسام فخر

No comments:
Post a Comment