Saturday, December 30, 2023

هكذا انقسم السيرك


هكذا انقسم السيرك إلى أمتين: في قمته بالطبع أسرة الحلو مؤسس السيرك، التي يُقال إنها تستأجر السيرك من الحكومة عن طريق شركة قطاع خاص تحت أسماء مختلفة، فهي تسمى أحيانا شركة السيرك المصرى الأوروبي، وأحيانا باسم شركة الألعاب الترفيهية، ولكن كثيرين يؤكدون أن صاحب الشركة الحقيقي هو "إبراهيم الحلو" مدير السيرك.

أما في قاع السيرك فيقبع عامل بسيط اسمه "سليمان عاشور". سليمان يبلغ من العمر ‎٥٣‏ عاما، ويعمل في السيرك منذ أن كان في العشرين من عمره. بعد ثلاثة وثلاثين عاما من العمل في السيرك كان مرتبه الشهري لا يزال مائة جنيه. لم يعثر على من ترضى بالزواج منه، ورغبة منه في توفير النفقات أصبح ينام في السيرك بين أقفاص الحيوانات.

لابد أن في مصر اليوم ملايين من الرجال من أمثال "سليمان عاشور سليمان"، ولكن قليلا منهم من يمكن أن يحدث له مثل هذا الحادث الفظيع الذى حدث للسايس "سليمان" في ‎٤‏ من يناير سنة ‎٢٠٠٢‏. فبعد أن انتهى عرض السيرك في تلك الليلة، وقام "سليمان عاشور" هو وزملاؤه بقيادة الحيوانات إلى أقفاصها، اضطر "سليمان" لسبب أو آخر، إلى السير على بعض هذه الأقفاص وكان من بينها قفص نمر اسمه "محسن". اختلفت الروايات عما حدث بالضبط، فقيل إن إحدى رجليه انزلقت من بين قضبان الحديد فأصبحت في متناول يدي النمر فقبض عليها النمر والتهمها. ولكن قيل أيضا، وهذا هو ما يبدو أقرب إلى المعقول، إن النمر أخرج أظافره من بين قضبان الحديد فأمسك بحذاء "سليمان" ولم يتركه يفلت منه حتى جر ساق "سليمان" إلى داخل القفص والتهمها. نُقل "سليمان عاشور" إلى المستشفى حيث أجريت له عملية بتر الساق وأُنقذت حياته.

عندما نُشر الخبر على الناس في الصحف والمجلات، وعرف الناس بأمر "سليمان عاشور" الذى لم يكن أحد يعرفه ولا خطر ببال أحد قط من قبل، عرف الناس لأول مرة أن من الممكن أن يقضي شخص في مصر ثلاثة وثلاثين سنة من عمره في عمل مضن وخطر للغاية، ولا يحصل على مرتب أكبر من مائة جنيه في الشهر ودون أن يكون له معاش ولا تأمين صحي.

غمر المصريون عم سليمان بعطفهم، فزاره في المستشفى عدد كبير من الناس من الكبار والصغار، فنانون مشهورون ورجال ونساء مجهولون تركوا له مبالغ من المال في ظرف وانصرفوا دون أن يفصحوا عن أسمائهم. ولم يتعجب زواره مما رأوا منه من استسلام لقضاء الله ورؤيته ما حدث قدَرا حتميا لا فرار منه. وإنما الذى أثار عجبهم بالفعل أن وجدوا أن مصدر قلقه الوحيد هو احتمال استغناء السيرك عنه بعد أن فقد ساقه، وأن الشيء الذي يعيد تكراره المرة بعد المرة، وكأنه يطلب من زواره أن يساعدوه في تحقيقه، هو أمله في أن يعود إلى وظيفته في السيرك كما كان قبل الحادث. إلى هذا الحد إذن تواضعت آمال المصريين بعد ثلاثين عاما من الانفتاح الاقتصادي الذى وُعدوا بأنه سيجلب الرخاء للجميع.

الأمر في حادثة السايس سليمان والنمر محسن مختلف تماما. الأمر لا يدور حول الشجاعة والخوف، الشعور بالأمل أو بالإحباط، بل أصبح الأمر كله يدور حول شىء واحد هو الجوع. السايس سليمان جائع، والنمر محسن جائع، ونصف الشعب المصري قد تحول إلى أمة من الجوعى.

ذلك أنه تبين من المعلومات التى نشرت على الناس عن السيرك، أن في السيرك نحو عشرين أسدا ونمرا، يحتاج الواحد منهم إلى نحو ‎٢٥‏ كيلو جرام من اللحوم يوميا. وإدارة السيرك تشتري كل يوم هذه الكمية من اللحوم، وإن كانت توفيرا للنفقات لا تعطي الأسد أو النمر هذه الكمية كلها من لحم الجاموس أو الأبقار بل تعطيه في بعض أيام الأسبوع كمية من لحم الحمير الأرخص سعرا.

ولكن إطعام الأسود أو النمور بلحم الحمير لا يخلو من خطر. إذ إن لحم الحمير يحتوي بطبعه على كمية من السكر أكثر مما يحتويه لحم الجاموس أوالبقر. وهو في هذا أقرب إلى لحم الإنسان، وترتب على هذا أن التعود على لحم الحمير قد يجعل الأسد أو النمر أكثر اشتهاءً للحم الإنسان، أى أكثر توحشًا.

هل يمكن، في ضوء هذه الحقيقة، أن يكون تفسير ما حدث للنمر محسن والسايس سليمان، أن شخصا ما قرر أن يطعم النمر كمية أكبر من لحوم الحمير توفيرا للحوم الأخرى؟ أو حتى طمعا في الحصول لنفسه على هذه الكمية من اللحوم الأخرى؟

 

- جلال أمين، عصر الجماهير الغفيرة. 

No comments:

Post a Comment

المعنى وغيابه

  Place des Lices, Paul Signac تحاول ثقافتنا المادية تفسير الإيثار على أنه نابع من دوافع أنانية. وكثيرًا ما يُقال بسخرية إن الأشخاص الذين يت...