Monday, October 30, 2023

مقتطفات من الفصل الأول "مثلث برمودا"، من كتاب: «عندما يقول الجسد لا» - جابور ماتيه


«إن عملية ربط الأشياء معًا هي التي يمكن أن ترتقي بنا
إلى الفهم الحق والتقدُّم الحقيقي».

- هانز سيلي، طبيب ومؤلف كتاب «ضغط الحياة»
 ***
ملاحظة للقارئ
 
لطالما عرف الناس بفطرتهم أن العقل والجسد لا ينفصلان. جاءت الحداثة وجلبت معها شقاقًا مؤسفًا، انفصالًا بين ما نعرفه بكياننا كله وما يتقبله عقلنا المفكِّر كحقيقة. ومن بين هذين النوعين من المعارف غالبًا ما ينتصر النوع الأخير، الأضيق نطاقًا، لسوء الحظ.

لذلك يسرُّني ويشرِّفني أن أضع بين يدَي القارئ اكتشافات العلم الحديث التي تؤيد مبادئ الحكمة القديمة. كان ذلك هدفي الأساسي من تأليف هذا الكتاب. أما الهدف الآخر فكان أن أرفع مرآة في وجه مجتمعنا القائم على الضغط النفسي، حتى نعرف إلى أي مدى نساعد، بطرق لا إرادية لا حصر لها، في تفشِّي الأمراض التي ابتُلينا بها.

هذا ليس كتابًا للوصفات الطبية، لكني آمل أن يكون بالنسبة إلى قارئه محفزًا للتحوُّل الشخصي. فالوصفات تأتي من الخارج، أما التحوُّل فيبدأ من الداخل. يصدر كل عام العديد من الكتب التي تضم وصفات بسيطة من مختلف الأنواع، جسدية وعاطفية وروحية، ولا أنوي إضافة كتاب آخر إلى تلك القائمة. تفترض الوصفات أن هناك شيئًا بحاجة إلى إصلاح، أمَّا التحوُّل فيحفِّز عملية التعافي –بلوغ السلامة والكمال– لما هو موجود بالفعل. وفي حين أن النصائح والوصفات قد تكون مفيدة، فالأهم بالنسبة إلينا هو إدراكنا لأنفسنا ولطريقة عمل عقولنا وأجسادنا. عندما يولد ذلك الإدراك من سعينا وراء الحقيقة، يمكنه أن يستحث التحول.
**** 

 

1-مثلث برمودا

- كلما أتقن الطبيب تخصصه، زادت معرفته عن جزء أو عضو معين من الجسم وقلَّ فهمه للإنسان الذي يسكن فيه هذا الجزء أو العضو.
 **
 
- كتب إيفان إيليتش في كتابه «حدود الطب» قائلًا: «ما يخبرنا به الطب عن التعافي والمعاناة والموت يعادل ما يخبرنا به التحليل الكيميائي عن القيمة الجمالية للفخار».
**
 
- في عام 1892 اشتبه الكندي ويليام أوسلر، وهو أحد أعظم الأطباء على مر العصور، في أن التهاب المفاصل الروماتويدي –حالة مرتبطة بتصلب الجلد– هو مرض ناجم عن الضغط النفسي. ورغم الأدلة العلمية الداعمة التي تراكمت على مدار 110 سنة منذ نشر أوسلر رسالته، فما زال طب الروماتيزم اليوم شبه رافض لتلك المعرفة. هذا هو ما آلت إليه مهنة الطب بفضل النهج العلمي الضيق. في نهوضنا بالعلم الحديث ليكون الحَكَم الفيصل في معاناتنا، حرصنا أكثر مما ينبغي على التخلص من تجليات العصور السابقة.
 **
 
- جاء في المقالة الافتتاحية لعام 1985 بمجلة نيو إنجلاند الطبية: «النظر إلى المرض والموت كإخفاقات شخصية هو شكل بغيض من أشكال إلقاء اللوم على الضحية. ففي الوقت الذي ينوء فيه المريض بعبء المرض، لا ينبغي لأحد أن يُثقِل كاهله ويجبره على تقبُّل كونه مسؤولًا عما أصابه.
 
تخلط مقالة نيو إنجلاند الطبية بين اللوم والمسؤولية، ففي حين أننا جميعًا نخشى اللوم، فإننا جميعًا نرغب في أن نكون أكثر مسؤولية، أي أن نقدر على الاستجابة بوعي لظروف حياتنا بدلًا من مجرد التكيُّف. كلٌّ منا يريد أن يكون صاحب السلطة في حياته: المسؤول، القادر على اتخاذ قرارات سليمة فيما يؤثر فيه. لا توجد مسؤولية حقيقية من دون وعي. أحد مَواطن الضعف في النهج الطبي الغربي هو أننا جعلنا الطبيب صاحب السلطة الوحيدة، ولا يتعدى المريض في الغالب كونه متلقيًا للعلاج أو الدواء. لقد سُلِب الناس فرصتهم في أن يكونوا مسؤولين حقًا. لا يمكن لأحدٍ منا أن يُلام على ابتلاء بالمرض أو الموت. فقد نُبتلى جميعًا في أي وقت، ولكن كلما تعلمنا المزيد عن أنفسنا، قل خطر أن ينتهي بنا الحال ضحايا سلبيين.
 **
 
- في إحدى محاورات أفلاطون، يقتبس سقراط استنكار أحد الأطباء الإغريق في تراقيا لزملائه قائلًا: «لهذا السبب لم يكتشف بعد أطباء هيلاس علاج العديد من الأمراض؛ إنهم غافلون عن الصورة الكبرى. إن أطباء العصر يرتكبون خطأً جسيمًا في علاجهم لجسم الإنسان، وذلك بفصلهم العقل عن الجسد».
**
 
- الضغط المصاحب للامتحانات واضح وقصير المدى، لكن العديد من الناس يقضون حياتهم بأكملها عن غير قصد كما لو أنهم تحت أنظار ممتحِنٍ عنيف ومتصيد للأخطاء، عليهم إرضاؤه بأي ثمن.
 **
 
- أحد مرضاي الميؤوس من شفائهم كان رجلًا في منتصف العمر، رئيسًا تنفيذيًّا لشركة تروِّج لغضروف سمك القرش على أنه علاج للسرطان. بحلول الوقت الذي أُدخِل فيه إلى وحدتنا، كان السرطان الذي شُخِّص به مؤخرًا قد انتشر في جميع أنحاء جسده. ظل يأكل غضروف سمك القرش حتى يوم وفاته تقريبًا، لكن ذلك لم يكن بسبب إيمانه بقدراته الشفائية. كانت رائحته كريهة –نتنة لدرجة أن المرء ليلاحظها من مسافة بعيدة– ولم يسعني إلا تخيُّل مذاقه. أخبرني قائلًا: «أنا أكرهه، لكن شريكي في العمل سيُصاب بخيبة أمل كبيرة إذا توقَّفتُ عن أكله».

أقنعته بأن لديه كل الحق في أن يعيش آخر أيامه دون تحمُّل مسؤولية خيبات أمل شخص آخر.
 **
 
- سرتُ بعرج طفيف في رواق دار الرعاية. كنت قد خضعت في ذلك الصباح لعملية جراحية بسبب تمزق غضروفي في الركبة، حدث نتيجة تجاهلي لما كان يقوله لي جسدي بلغة الألم كلما ركضتُ على الأسمنت.
 
- فتحت باب غرفة والدتي، وإذا بي أتوجه تلقائيًّا إلى فراشها بخطوات سريعة طبيعية غير عابئة بالألم لتحيتها. الدافع لإخفاء العرج لم يأتِ عن وعي، وانجرافي وراء الدافع حدث قبل حتى أن أدرك. ثم في وقت لاحق تساءلت عما ساقني بالضبط إلى هذا التصرف غير الضروري؛ غير ضروري لأن والدتي كانت لتتقبل بهدوء أن ابنها البالغ واحد وخمسين عامًا يعاني بسبب ساقٍ عرجاء بعد مرور اثنتي عشرة ساعة فقط من خضوعه للجراحة فيها.

إذن ما الذي حدث؟ كان دافعي التلقائي لحماية أمي من رؤية ألمي، حتى في تلك الحالة غير الضارة، هو رد فعل متجذر بعمق ولا علاقة له بالاحتياجات الراهنة. ذلك القمع كان ذكرى، استحضار لديناميكية جرى حفرها في عقلي النامي قبل أن أقدر حتى على إدراكها.
 **
 
- تعلَّمتُ مبكرًا أن عليَّ أن أبذل جهدًا لنيل الاهتمام، وألا أثقِل على والدتي قدر الإمكان، وأن الأسلم هو أن أقمع قلقي وألمي.

في التفاعلات الصحية بين الأم ورضيعها، تكون الأم قادرة على رعاية الرضيع دون أن يبذل جهدًا من أي نوع مقابل ما يتلقَّاه. لم تستطع أمي توفير تلك الرعاية غير المشروطة لي، ونظرًا إلى أنها ليست قديسة أو معصومة من الخطأ، فالأرجح أنها لم تكن لتنجح كليًّا في ذلك، حتى من دون الأهوال التي عانتها عائلتنا.

وفي ظل هذه الظروف أصبحت حاميًا لوالدتي، أحميها في المقام الأول من الوعي بألمي. ما بدأ كتأقلم دفاعي تلقائي للرضيع سرعان ما تجمد ليصبح نمط شخصية ثابتًا، حتى إنه لم يزل يسوقني بعد واحد وخمسين عامًا إلى إخفاء حتى أدنى مشاقِّي الجسدية عن أمي.
**
 
ظلت محتفظة بابتسامتها الرقيقة حتى النهاية، رغم ضعف قلبها وصعوبة تنفسها. كانت تطلب مني بين الحين والآخر تحديد مواعيد لزيارات طويلة خاصة، حتى في المستشفى خلال أيامها الأخيرة. لم تكن تريد سوى الدردشة، حول الأمور الجادة والتافهة على السواء. قالت لي ذات مرة: «لم ينصت لي أحدٌ قط سواك».
****



 

 

No comments:

Post a Comment

المعنى وغيابه

  Place des Lices, Paul Signac تحاول ثقافتنا المادية تفسير الإيثار على أنه نابع من دوافع أنانية. وكثيرًا ما يُقال بسخرية إن الأشخاص الذين يت...