قال تعالى: (وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ)، ولم يقل: (وما أرسلوا لهم)؛ لأن الإرسال عادةً يقتضي التسلط والعلوّ، فالله تعالى يقول: لم نرسلهم على هؤلاء المؤمنين حافظين لأعمالهم وأقوالهم وسلوكهم.
وهذا توبيخ للمشركين أنهم لم يُكلَّفوا بهذه المهمة، وفيها تصبير للمؤمنين؛ فكأن الله تعالى يقول: إن الحكم والأمر والنهي والتصويب والتخطئة لله سبحانه، فما دام لم يُرسل هؤلاء الكفار حافظين، فلا يهمَّنَّكم ما يقولون، ولا تلتفتوا إليهم.
وفيها تأديب عام لجميع الخَلق، فإنه لم يُرسَل أحدٌ حافظًا على أحد، حتى النبي ﷺ، قال عنه تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية ٢٢]، وإنما الحافظون هم الملائكة الذين يرسلهم الله إلى الإنسان يحفظون أقواله و يسجلون عليه.
ففي السياق درس مهم، وهو التنبيه لعموم الناس، أن يلزموا حدودهم، فالله تعالى لم يرسل أحدًا من البشر حافظًا على أحد إلا بمقتضى مسؤوليته عليه إن كانت، كالأب على أولاده، أو الزوج على زوجته، أو المسؤول في حدود وظيفته، أما أن يكون حافظًا للناس فلا.
والمراقبة على تصرفات الناس تنتهي إلى بحث عن الأخطاء والعيوب والزلات، وقد روي عن النبي ﷺ: «مَثَلُ الذي يجلس فيسمع الحكمةَ، ثم لا يُحدِّث عن صاحبه إلا بشرِّ ما سَمع، كمّثَلِ رجلٍ أتى راعيًا فقال: يا راعي أجزرْ لي شاة من غنمك. قال: اذهب فخُذ بأُذُن خيرِها، فذهب فأخذ بأُذُن كلب الغنم».
ومثل هذا مَن يحضر موعظة، أو يقرأ كتابا، أو يسمع برنامجا، فيجد علما وخيرا وفوائد جليلة؛ لكنه لا يلتفت ولا يتذكر إلا الزلل، فهو كالذي أخذ الكلب، وترك الغنم، وقد كان يسعه أن يأخذ أثمن شاة!
وفي الآية إشارة إلى وجوب عناية المرء بنفسه، وأن أولى ما يبدأ به إصلاح عيبه ورعاية سلوكه.
ومن دروس هذه الآية الكريمة، أن كثيرا من الناس يُحسنون رد الفعل أكثر مما يحسنون المبادرة، وتجدهم يتفاعلون عند وقوع منكر أكثر مما يتفاعلون عند غياب معروف كان من الواجب تحقيقه وإقامته.
ولا شك أن على الناس أن ينكروا المنكر، لكن لا ينبغي أن يكون نشاط الإنسان وحيويته واندفاعه مرهونا بإثارة أو استفزاز، ثم إذا ذهب هذا المثير خمد ولم يكن عنده إنتاج أو فاعلية، لأن معنى ذلك أن يكون عدوك هو الذي يوجه طاقتك أو يُسكِّنها، ويختار الموضوع والوقت والمكان الذي يستفز طاقتك فيه وإليه، وهذا أمر خطير؛ لأن معنى ذلك أن يكون الناس سلبيين حتى توجد المثيرات أو المحفزات، وربما تفاعلوا معها بطريقة خاطئة.
ومن دروس هذه الآية: أن الله حين وصف الكفار بأنهم يضحكون ويتغامزون ويتفكهون، لم يذكر عن المؤمنين أنهم قابلوا ذلك بمثله.
وهو دليل على أن مقياس القوة ليس الصراخ والضجيج والصخب، والسباب والشتام، وإنما الحجة والصبر، والنبي ﷺ يقول: "ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
- من تفسير سورة المطففين، من كتاب "إشراقات قرآنية" - للدكتور سلمان العودة

No comments:
Post a Comment