Sunday, June 29, 2025

المعنى وغيابه

 

Place des Lices, Paul Signac


تحاول ثقافتنا المادية تفسير الإيثار على أنه نابع من دوافع أنانية. وكثيرًا ما يُقال بسخرية إن الأشخاص الذين يتصرفون بلطف، دون أي منفعة تعود عليهم، لا يفعلون ذلك إلا من أجل الشعور بالرضا. لا يدعم علم الأعصاب هذا الرأي، فمنطقة الدماغ التي تضيء عندما يتصرف الشخص بطريقة إيثارية صرفة ليست هي الدوائر التى تنشطها المتعة أو توقع المكافأة. وفقا لدراسة حديثة، فإن أحد العوامل الرئيسة المساهِمة في السلوك الإنساني هو القشرة الصدغية الخلفية العليا، وهي منطقة في مؤخرة الدماغ تتضمن وظيفتها الوعي بالحالة العاطفية للآخرين. يبدو أننا مبرمجون على التناغم مع احتياجات بعضنا، وهذا هو أحد جذور التعاطف. «ربما لا ينبع الفعل الإيثاري من رغبة متوهجة دافئة في فعل الخير، وإنما من الاعتراف البسيط بأن ذلك الشيء هناك هو إنسان له نيات وأهداف وبالتالي أريد أن أعامله كما أحب أن يعاملني»، هكذا يقول سكوت هيتل، أحد الباحثين في الدراسة، الأستاذ المساعد في علم النفس بجامعة ديوك الطبية في مدينة دورهام بولاية نورث كارولينا. لعل القاعدة الذهبية محفورة في دارات أدمغتنا، ليس كوصية، بل كجزء أساسي من هويتنا.

ثمة سمة أو رغبة متأصلة في البشر يسميها الطبيب النفسي النمساوي فيكتور فرانكل «البحث عن المعنى». يوجد المعنى في السعي وراء أمور تتجاوز الذات. أغلبنا نعلم في قلوبنا أننا لا نشهد أكبر قدر من الرضا عندما نتلقى شيئًا أو نحصل على شيء، بل عندما نساهم بصدق في رفاهية الآخرين، أو في الصالح الاجتماعي، أو عندما نبتكر شيئًا أصيلا جميلا، أو مجرد شيء يعبر عن الحب. ليست مصادفة أن تنشأ أغلب أنواع الإدمان في المجتمعات التي تُسّخِر الأهداف الجماعية والتقاليد العريقة والإبداع الفردي للإنتاج الضخم وتراكم الثروات. الإدمان هو أحد عواقب «الفراغ الوجودي»، شعور الخواء الذي يولد عندما نعطي قيمة مطلقة للإنجازات الأنانية. كتب فرانكل: «مشهد المخدرات هو جانب واحد لظاهرة جماعية أشمل، ألا وهي شعور اللامعنى الناتج عن تثبيط احتياجاتنا الوجودية، الأمر الذي صار بدوره ظاهرة كونية في مجتمعاتنا الصناعية». يمكننا استبدال «مشهد المقامرة.... مشهد الإسراف في تناول الطعام... مشهد الإفراط في العمل» والعديد من المساعي الإدمانية الأخرى أيضًا بعبارة «مشهد المخدرات».

بعبارة أخرى لا يعيش البشر بالخبز وحده. يمكننا العثور على القوة العليا، حتى وإن لم تقترن بالدين، إذا نظرنا خارج أنفسنا ووجدنا علاقة ذات معنى تربطنا بالكون وتتجاوز احتياجاتنا الأنانية. لقد رأينا أن الإدمان ينشأ من التفكك. وغياب المعنى هو تفكك آخر لا يمكننا نحن البشر، نحن المخلوقات الروحانية، احتماله. لا بد أن يميز كل واحد فينا المعنى، وأن يعثر عليه بطريقته الخاصة، ولكن كما قال أحد زملاء الدكتور فرانكل في فيينا، الدكتور ألفريد الانجليه، في حديثه الأخير بفانكوفر : «لن ينبثق المعنى إلا بخوض حوار مع العالم».

الجزء الأكبر من مقاومة البشر لمفهوم القوة العليا، على الرغم من أنه يظهر كرفض عقلاني للمعتقدات الدينية، هو في الواقع مقاومة الأنا للضمير والوعي الروحي، للصوت بداخلنا الذي يعترف بالحقيقة ويرغب في تبجيلها. تخشى الأنا الجشعة أن تُبادَ في انحنائها لشيء أعظم، سواء كان «الرب»، أو احتياجات الآخرين، أو حتى احتياجاتنا الأسمى.


 - د. جابور ماتيه، «في عالم الأشباح الجائعة»
- ترجمة: إيمان سعودي

المعنى وغيابه

  Place des Lices, Paul Signac تحاول ثقافتنا المادية تفسير الإيثار على أنه نابع من دوافع أنانية. وكثيرًا ما يُقال بسخرية إن الأشخاص الذين يت...