Tuesday, December 31, 2024

ذاكرة البحر

 

© Ahmad Eddeeb

كنت أسير في طريقي المعتاد ذلك اليوم، إلا إنني عندما مررت بالبحر شعرت أنه مختلف. هل حقا كان يبدو مختلفا أم أن رؤيتي له هي التي تختلف تبعا لإحساسي؟
وقفت أتأمله برهبة. كان الجو عاصفا، إلا أن البحر كان يبدو في أبهى حالاته، كلوحة من ثلاث درجات من الأزرق تغطيها السماء بدرجتها الرابعة، ويتخلل هذه الزرقة سحب وأمواج بيضاء تزيد اللوحة سحرا و تناغما.
أنظُر للبحر طويلا فيغمرني الاسترخاء، وأنسى الجو العاصف من حولي. وعلى الرغم مني، أغوص في ذكرياتي، فتأتيني ذكريات لطالما اعتقدتُ أني نسيتُها، أو أخرى جاهدتُ كثيرا لأنساها.
أبُث للبحر بأفكاري في صمت. لكم أنت غريب أيها البحر! منذ آلاف السنين تستمع إلى حكاياتنا وأفكارنا. تشهد معنا حيواتنا، أفراحنا ومعاناتنا، إلا إنك ما زلتَ جميلا ساحرا مهيبا. لكم أتفهَّم  ثورتك من حين لآخر عندما تؤلمك كل هذه الذكريات. ترى كم من شخص وقف في هذه البقعة قبلي ليحدثك كما أفعل الآن؟

**********


وقف الإسكندر على شاطئ البحر في هذه المنطقة النائية من أرض مصر ينظر إلى الأفق البعيد مفكرا في الشاطيء الآخر، وعلى الرغم منه خرجَت زفرة تحمل بعضا من آلامه التي يحاول جاهدا طردها.
تأمل المياه مأخوذا بصفائها ولونها العجيب. فعلى الرغم من طول رحلاته قبل أن يصل إلى مصر، إلا إنه لم يَرَ في مثل بهاء هذا الشاطئ. نظر للمياه مليا وزفر ثانية وهو يتذكر النصر الذي حققه حتى الآن منذ أن بدأ حربه هذه ضد الفرس. كم يتوق للعودة إلى مقدونيا ويشتاق إلى حياته التي كانت! مازال يذكر إطراءات أرسطو معلمه الخاص وتنبؤاته له بمكانة عظيمة وسط علماء البلاد. لكن الأقدار لا تأتينا دائما بما نبتغي، فها هو قائد جيوش في حرب لا يعلم لها آخِر.
وعلى الرغم من انتصاراته إلا إنه ما زال يتوق للعودة. يستزيد دائما من الانتصارات علها ترضيه، بلا فائدة. وبكل ما يحمل في أعماقه من حنين للشاطئ الآخر، تلفَّت حوله متأملا تلك المنطقة وفكَّر: ربما تكون هذه المنطقة هي حلقة الوصل بيني وبين بلادي. لأنشئ عاصمة جديدة لمصر هنا، لتحمل دائما اسمي وذكرياتي.


**********

وقف أرشميدس على شاطئ البحر دون أن يحِّرك ساكنًا لِما يقترب من الساعة، حتى ليخيل لمن يمر أنه مجرد تمثال، إلا إن أهالي البلدة كانوا قد اعتادوا منه مثل هذه التصرفات العجيبة، فلم يعد أحد يعبأ بذلك.
و على الرغم من الهدوء البادي على وجهه، كان عقله يعمل بجنون طوال هذه الساعة، حتى إنه لم يلحظ جمال البحر ذلك اليوم، والذي كان دائما سببا لاسترخائه و إلهامه كلما واجهَته معضلة ما.
كان ما طلبه منه الملك هذه المرة غريبا. كان يريد منه أن يؤكد له إن كان تاجه الجديد قد صُنع من الذهب الخالص دون أن يُخلط بالفضة. فقد كان يشك في الصائغ الذي صنعه، وكان يريد من أرشميدس أن يكشف ذلك دون أن يتلف التاج. ويا له من طلب: التاج أو رقبته!
نفض رأسه بعنف شاعرا بالغضب لعجزه عن الوصول لأي حل، و قال صارخا: ألن تساعدني هذه المرة أيها البحر؟ أين ذهبَت كل أفكارك و أفكاري؟
استمع الى صوت الامواج المتلاطمة وهي تجيبه في لامبالاة، و هز رأسه و استدار عائدا إلى بيته.


**********


تأملَت كليوباترا السفن التي ترسو على شاطئ البحر بأسى. لَكَم تبدو كوحوش تجثم على قلب المدينة الرقيق، خاصة بعد الخراب الذي حل بالمدينة وأودى بأكثر معالمها جمالا.
وعلى الرغم من الدمار المحيط لم يفُت كليوباترا أن تلحظ البحر في ذلك اليوم، والذي بدا كأروع ما يكون، وهو يتلألأ بزرقة صافية تميل إلى الأبيض في مشهد لم ترَ مثله من قبل، متحديا كل ما فعله البشر في حقه وحق المدينة.
نظرَت إليه طويلا ثم بدأت تحدِّث نفسها في خفوت، أو لعلها كانت تتحدث إلى البحر: لا توجد حرب بلا خسائر، وأنا لم أكن أريد شيئا مثلما أردتُ أن أستعيد عرش مصر الذي سلبه مني ذلك الغبي بطليموس. ربما فقدَت المدينة الكثير من روائعها، ولكن ما زال لديها الكثير لتقدمه لي.


**********


كان الجو في ذلك اليوم من أيام الشتاء عاصفا، والسماء ملبدة بغيوم لا تنتهي، وكان البحر ثائرا لا تتوقف أمواجه عن التخبط عند الشاطئ. إلا إن هذا لم يفت في عضد الشيخ سيد الذي كان يجلس على الصخور يدندن بصوته العذب:

يا فؤادي ليه بتعشق الحبيب قاسي عليَّا
قلبه ظالم لو بيشفق أنا صابر ع الأسِيَّا
خايف أشكي من صدوده يفرحوا عُذَّالي فيَّا


وعلى الرغم من غنائه الذي كان قد بدأ يعلو، إلا إن باله كان مشغولا بأمر آخر.
كان هذا اليوم هو بداية مرحلة جديدة في حياته المليئة بالمراحل المختلفة، فلقد جاء إلى البحر مودعا، حيث إنه سينتقل إلى القاهرة للعمل بفرقة الشيخ سلامة حجازي، وهو ما كان حلما أكبر من أن يتخيل تحققه.
كانت نفسه تعج بالفرحة والحماسة والأمل، فنظر إلى البحر الثائر مليا وقال: قد لا أراك لفترة طويلة، إلا إنك ستكون معي بألحانك، في ألحاني. ثم ارتفع صوته بالغناء ثانية:  

يا حبيبي جُد بنظرة يكفى تيهك والدلال
من بعادك ذاب فؤادي إمتى أفرح بالوصال
قلبي حَبَّك وانت عارف إني مغرم بالجمال


**********

على الرغم من أن الإحتفالات كانت قائمة بطول البلاد، إلا إن مَن كان موجودا في تلك المنطقة من شاطئ البحر كان يشهد وضعا معاكسا تماما. فقد كانت مراسم الترحيل والوداع جنائزية أكثر منها عسكرية أو رسمية.
وقف الملك فاروق ينظر إلى الجمع الذي جاء ليشهد لحظات خروجه بكبرياء، ثم أدار بصره إلى البحر ينظر إليه للحظات قد تكون الأخيرة. كان يراقب الموقف بجمود حتى ليكاد يجزم كل مَن حوله بأن الأمر لم يؤثر فيه بشيء. إلا إن الحسرة والحزن اللذين يعصفان بكيانه كانا أهم أسباب ذلك الجمود.
كان ما زال مشدوها، لا يصدِّق أن هذا كله قد حدث له، وفي هذه الفترة الوجيزة. كم هي غريبة هذه الحياة! كان أمس الملك، واليوم صار مطرودا يبحث عن ملجأ!
نظر إلى البحر مرة أخرى بشوق، ودخل إلى الباخرة.


**********


أشعر بالماء يغمر وجهي بلا مقدمات. فأفيق من برودة الذكريات لأنتبه إلى برودة الجو التي اشتدت من حولي. أرفع وجهي إلى السماء لأجدها قد بدأت تمطر، و يشتد المطر غزارةً مع كل لحظة تمضي.
أضم يديَّ لعلي أجد بعض الدفء، وأبدأ في السير ببطء لأعود إلى طريقي.
وقبل أن يصبح البحر بعيدا عن مرمى بصري، استدرتُ أنظر إليه بابتسامة ممتنة، لعله يحفظ لي في ذاكرته هذا اليوم، وهذه اللحظة.


**********

 

15/03/2010

المعنى وغيابه

  Place des Lices, Paul Signac تحاول ثقافتنا المادية تفسير الإيثار على أنه نابع من دوافع أنانية. وكثيرًا ما يُقال بسخرية إن الأشخاص الذين يت...